كيف سيواجه فرنجية الإجماع المسيحي؟
روزانا رمّال
نجحت الجماعات المتطرفة في المنطقة في فرز خطير أدّى إلى تهجير المسيحيين إلى خارج المنطقة العربية. خصوصية الهجرة المسيحية تحتّم النظر إليها بطريقة تختلف عن باقي الأطياف، فالمجتمع الغربي «المسيحي» يشكل ضمانة استقرار وهدوء طويل الأمد للمهاجرين المسيحيّين.
لبنان الذي يحوي برمزيته جزءاً هاماً من مسيحيّي المنطقة العربية، يقع تحت وطأة هذا التأثير ويعيش استقراراً «هشاً» دائماً تجد فيه «إسرائيل» طمأنينة أكبر، لأنّ الصيغة التي يعيش فيها اللبنانيون تشكل تحذيراً لـ«إسرائيل» إذا أنتجت استقراراً ومصالحات، مما يعني أنّ الكيان «الإسرائيلي» بات في خطر لناحية تثبيت توجهاته العنصرية، خصوصاً لجهة بذل الجهود لقيام «دولة يهودية»، تقابلها دولة «داعش» المتطرفة، ويحيط بها التوجه «الوهابي» في المملكة العربية السعودية كضمانة تطغى على الحكم الذي لن يحوي أو يحتمل أيّ نوع من صيغ التعايش الممكنة، وفي هذا الإطار تسعى «إسرائيل» منذ 5 سنوات، ومعها الولايات المتحدة، لتطبيق هذه النظرية علّها تُفلح لمرة لن تتكرّر بإثبات نجاحها عبر قيام دولة «داعش» المتطرفة إسلامياً، كما تريد «إسرائيل» الإيحاء.
الصيغة اللبنانية التي تحوي رئيساً للجمهورية مارونياً مسيحياً، هي الوحيدة في المنطقة، أيّ أنّ مسيحيّي المنطقة يجدون في الرئاسة اللبنانية بعض الأمل للبقاء والاستمرار كأصحاب حق وجذور قديمة جداً، لكن العامل الديمغرافي بطبيعة الحال يحسم تفوّق المسلمين فيها، وبالتالي لا يسمح لممارسة هذا الحق الأكثري إلا في لبنان الذي يعيش جمهورية بدستور يعتبر بشكل أو بآخر مسودّة الدستور الفرنسي الذي فيه من الديمقراطية ما يكفي للتمثيل الشعبي بالسلطة.
لكن، وبالرغم من الفرصة التي يتيحها لبنان، فإنّ العمل الجاري على إيصال رئيس ضعيف لسدة الرئاسة مستمرّ دائماً وبشكل ملحوظ حتى أنّ بعض الفرقاء في لبنان من حيث يدرون أو لا يدرون ينفذون هذه السياسة تحت فزّاعة السلم الأهلي ومخاطر هدمه، إذا جاء رئيس مسيحي قوي، علماً أنّ البلاد انتظرت مراراً وطويلاً للاتفاق على رئيس حكومة أو لتشكيل حكومة من دون أن يعيش البلد فكرة ضرب الاستقرار أو العيش المشترك، بالتالي فإنّ هذا يؤكد أنّ الرئيس الضعيف في لبنان الذي لا يتمتع غالباً بحيثية سياسية هو مطلب خارجي بأيادٍ داخلية تزعم أنها تعرف هذه المخاطر وتشرحها لقاعدتها الشعبية والحزبية زيفاً من دون أن تطبقها، لأنها تدرك أنّ الرئيس المسيحي الذي يتمتع بحيثية شعبية قادر أن يصبح بحزبه أو تياره حالة تمتدّ على الاراضي اللبنانية كافة تعزز الوجود والانتماء المسيحي وترفع من أسهم لبنان كدولة مستقرة برئيس قوي لبلد قوي بما سيضيفه على البلاد بعد محوه لحقبة سابقة. وهنا تفيد المقارنة بوجود الرئيس لحود الذي لا يُعتبر رئيساً قوياً بمعنى التمثيل المسيحي، حتى ولو أنه تسلّم سدة الرئاسة بعد قيادته للجيش وحرص على الجيش والمقاومة وعلى أهمّ انتصار للبلاد والمتمثل بإنجاز التحرير العام 2000، المقصود أنّ قوة لحود النابعة من قوة موقفه تجاه العدو «الإسرائيلي» ودعمه للمقاومة، تختلف عن فكرة التمثيل المسيحي والشعبي في المجلس النيابي، فهو لا يمثل حزباً بطبيعة الحال. اذاً، فكرة الرئيس المسيحي القوي الذي يواجه مخاطر تمدّد «داعش» وأخواته هو الرئيس الذي يتمتع بحيثية شعبية مسيحية.
من بين الزعماء الأربعة الأقوياء «مسيحياً» يُعتبر النائب سليمان فرنجية رقماً صعباً بحظوظ وحق في الترشح، والوصول إلى الرئاسة، لكن الأهمّ من كلّ هذا أنّ فرنجية يُعتبر أكثر الحريصين على الحقوق المارونية، وهو أكثر المهتمّين بالحفاظ على ما تقتضيه الكنيسة ودعمها ورفع الصوت لحمايتها كمرجعية، لكنه اليوم واقع في مأزق لا يمكن له أن يتجاهله انسجاماً مع ماضيه الذي ينادي بحماية المسيحيين وحقوقهم دائماً، فالإجماع المسيحي المتمثل باختيار العماد عون مرشحاً رئاسياً بمبادرة جعجع المثيرة للجدل، لا يمكن تجاهله، وهو لن يتجاهله بطبيعة الحال، رغم تأكيده أنه ماض في الترشح، وهنا بغضّ النظر عن خلفيات طرح جعجع لدعم ترشيح عون فإنه، وبدون شك استطاع خلق حيرة في صفوف مسيحيّي 8 آذار، ومعهم حزب الله، الذي لا يمانع بوصول أيّ من الاثنين للرئاسة، إذا اتفق المسيحيون عليه، علماً أنّ مرشحه الثابت هو العماد عون.
المسؤولية التي تقع على عاتق فرنجية أكبر من أيّ وقت مضى، لأنّ خرق الإجماع المسيحي قد يكون سيفاً ذا حدّين يؤثر عليه انتخابياً وشعبياً ووطنياً، وقد يخلق شرخاً غير مطلوب في وقت الجنون الذي يعصف بالمنطقة، والتهوّر السياسي وتغيّر حتى الرؤى في دول خليجية صديقة للبنان أصبحت هي نفسها تتخبّط ولا تعرف مصيرها بعد، كالسعودية التي لا تعرف مدى نفوذها مستقبلاً وعلى أيّ مساحة سياسية، وأين؟!
الأكيد أنّ فرنجية غير مستعدّ ليبدو بمظهر الساعي وراء الرئاسة مهما كلفت الأثمان، حتى بدون إجماع مسيحي ولا يمكن له اعتبار ترشيحه يشبه مثلاً ترشيح ميشال سليمان الذي اعتُبر في حينه وسطياً ولا يمثل حيثية مسيحية، فسهل قبوله آنذاك. ويعرف فرنجية أنّ قبول الحريري وجنبلاط وبري به وانتخابه رئيساً باعتبار أنّ الاستحقاق وطني وغير مسيحي هو انتحار سياسي لا يفكر فيه.
حق فرنجية في الوصول إلى الرئاسة ثابت أيضاً، لكن طريقه داخلياً أصعب من أيّ وقت مضى، ومن دون انسحاب عون لمصلحته فإنّ هذا مستحيل، فهل سيعتمد فرنجية على فيتو الخارج على عون وهو طريقه الوحيد للرئاسة؟ أو هل سيأخذ على عاتقه هذه المجازفة؟
في ظلّ الثقة بأنّ خيار فرنجية وعون واحد إقليمياً، بل إنه خيار فرنجية في الأساس، يستحيل قبول الافتراض برهان فرنجية على هذا الفيتو الإقليمي، ويصير منطقياً التوقف أمام صيغة فرنجية المقترحة لدعم عون، وهي «أنتخبه بشرط أن يتعهّد بانتخابي إذا لم يحالفه الحظ بالفوز بالأغلبية اللازمة دستورياً»، فينتقل فرنجية بهذا من الترشيح التنافسي إلى الترشيح من ضمن التناوب بين الحلفاء، فهل يقبل عون أم يعتبرها تسهيلاً للتصويت ضدّه وإبراء ذمّة لتمرير فرنجية، كما يقول مقرّبون من عون؟