إنجاز الاستحقاق البلدي سيكشف تقصير السلطة عن إجراء الانتخابات النيابية
محمد حمية
على رغم الانشغالات الداخلية بالاستحقاق الرئاسي والأخطار الأمنية الداهمة والملفات الإقليمية المعقدة، إلا أن ملفّ الانتخابات البلدية فرض نفسه كاستحقاق داخلي محليّ على الحكومة، كما على القوى السياسية كافة. وبدأ الحديث في الكواليس والعلن حول مصير هذا الاستحقاق. فإذا كان سبب عدم إجراء الانتخابات النيابية هو فشل الأطراف السياسية في الاتفاق على قانون انتخابي، فما هو مبرّر عدم إجراء الانتخابات البلدية التي تجرى وفقاً لقانون انتخابي خاص؟ أما إذا كان السبب الظروف الأمنية، فها هو التيار الوطني الحرّ قد أجرى انتخاباته الداخلية الأسبوع المنصرم في جميع المناطق اللبنانية، لا سيما في عكار وبعلبك ـ الهرمل والجنوب، كما تم إجراء انتخابات في خمس بلديات مستقيلة في عكار وانتخابات نيابية فرعية منذ سنتين في ظلّ أوضاع أمنية سيئة.
وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق الذي يملك صلاحية دعوة الهيئات الناخبة إلى الانتخابات البلدية، أكّد الشهر الماضي على ضرورة إجراء الانتخابات البلدية في موعدها القانوني من دون تمديد. كما أكد المشنوق في تصريح آخر أن الانتخابات البلدية والاختيارية ستُجرى في موعدها حتماً، وأنه ليس في وارد القبول بأيّ تمديد للاستحقاقات المقبلة. لكن ماذا عن موقف القوى السياسية؟ هل ستُجرى الانتخابات أم أن التمديد للمجالس البلدية سيفرض نفسه على أيّ انتخابات؟ وهل يكون التأجيل أفضل الخيارات؟ وهل تسمح الظروف السياسية والأمنية بإجرائها؟ وفي حال أجريت ما الذي يمنع إجراء الانتخابات النيابية؟ وما هي أهمية إجرائها في ضوء الاتجاه إلى تعزيز دور البلديات لا سيما في ملف النفايات؟
المشنوق يشير في تصريحه إلى أنه لمس تأييداً لإجراء الانتخابات البلدية من جانب المسؤولين ورؤساء الكتل الذين التقاهم كلّهم، وهم رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط ورئيس تكتّل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون. لكن من الواضح أن القرار السياسي لإجراء الانتخابات هو بيد الحكومة والقوى السياسية المكوّنة لها، ولا يتحمل وزير الداخلية المسؤولية وحده، إلا إذا أعطته الحكومة كلمة السرّ لتأجيلها أو التمديد بسبب الظروف السياسية في البلاد. لكن وجود خمسين بلدية منحلّة ومستقيلة و15 مستحدثة، ألا يلزم السلطة إجراء الانتخابات؟
مصادر بقاعية تحدثت لـ«البناء» عن حركة مالية نشيطة لعدد من المتمولين المغتربين في البقاع تؤشر إلى الاستعداد لخوض الانتخابات البلدية، لكنها أشارت من جهة ثانية إلى غياب الحركة الشعبية والحماسة للانتخابات بسبب الوضع الاقتصادي والظروف في المنطقة لا سيما في سورية. أما في بلعلبك ـ الهرمل، فقد علمت «البناء» من مصادر مطّلعة أن الماكينات الانتخابية العائلية في محافظة بعلبك ـ الهرمل بدأت العمل والاستعداد وكأن الانتخابات البلدية حاصلة في موعدها.
برأي وزراء داخلية سابقين، إن الظروف السياسية والأمنية الحالية تسمح بإجراء انتخابات بلدية، كما تسمح بإجراء الانتخابات النيابية، لأنها تحتاج إلى الإعداد التقني والإداري والجهد نفسه وإلى الترتيبات نفسها التي تحتاجه إليها البلدية، لكنهم يؤكدون أن السلطة السياسية لم تتخذ القرار حتى الآن لإجراء هذه الانتخابات، ويعتبرون أن التمديد للمجالس البلدية الحالية أو تأجيل أيّ انتخابات يخفيان أهدافاً سياسية مبيّتة، ويشيرون إلى أن ربط البلديات بوزراة الداخلية إساءة للديمقراطية وللبلديات، ويدعون إلى إعادة البلديات إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية بعدما دُمجت مع وزارة الداخلية. ويلفتون إلى أنه إذا لم تكن وزارة الداخلية قادرة على إجرائها في يوم واحد بسبب عدم القدرة على نشر القوى الأمنية في كافة المحافظات وبسبب انتشار قسم كبير من الجيش على الحدود الشرقية والشمالية والجنوبية للبنان، فيمكن لها أن تجريها على مراحل.
تتنوّع الأسباب التي تطرحها بعض القوى السياسية لتبرير تأجيل الانتخابات أو التمديد للمجالس المحلية، منها ما يعود إلى الظروف الأمنية لا سيما في مناطق البقاع في ظل انتشار السلاح وتفلت الوضع الأمني ووجود المسلحين على الحدود ما قد يؤثر على أجواء الناخبين، ومنها ما يعزو السبب إلى أن القوى السياسية لا تحتمل مزيداً من التمزق الاجتماعي داخل طوائفها وأحزابها والعائلات المؤيدة لها في ظل التمزّق المذهبي والطائفي الحاصل على المستوى الوطني.
يؤكد نواب من أطراف متخاصمة سياسياً في البقاع على أن الظروف الأمنية مناسبة لإجراء الانتخابات وأن الوضع الأمني على الحدود نتيجة وجود جماعات مسلحة إرهابية لن يؤثر على العملية الانتخابية، وكما يدعون وزير الداخلية إلى الالتزام بوعوده بإجراء الانتخابات حرصاً على المشاريع الإنمائية في منطقة البقاع المحرومة، ما يطرح سؤال، إذا كان نواب منطقة البقاع وفاعلياتها وعائلاتها مستعدّون لإجراء الانتخابات، وهي المنطقة التي تعتبر الأكثر سخونة لجهة الوضع الأمني، فما هو سبب عدم إجراء الانتخابات في باقي المناطق التي تشهد استقراراً أمنياً كاملاً؟
الظروف تسمح
وزير الداخلية الأسبق بشارة مرهج أكّد في حديث إلى «البناء» أن الظروف السياسية والأمنية تسمح بإجراء انتخابات بلدية، كما تسمح بإجراء الانتخابات النيابية لأنها تحتاج إلى الإعداد التقني والإداري والجهد نفسه وإلى الترتيبات نفسها التي تحتاج إليها الانتخابات البلدية، وإذا كان هناك قدرة للدولة على إجراء الانتخابات البلدية، فلماذا لا تقوم بإجراء النيابية؟
ويستبعد مرهج أن تكون السلطة السياسية تخطط لإجراء الانتخابات البلدية، أما السبب فهو أن إجراءها سيكشف تقصير الدولة لجهة إجراء الانتخابات النيابية، موضحاً أن أيّ انتخابات يجب أن تُجرى بشكلٍ دوري ولا معنى لأي انتخابات أو سلطات منتخبة إذا لم تُجر بشكلٍ دائم ودوري.
ويشير مرهج إلى أن تمديد أو تأجيل أي انتخابات يخفي في طياته أهدافاً سياسية مبيتة، ويعتبر أن ربط البلديات بوزراة الداخلية أكبر إساءة للديمقراطية وللبلديات، بل يجب إعادة البلديات إلى الوزارة التي تم اغتيالها في القرن الماضي أي وزارة الشؤون البلدية والقروية بعدما دُمجت مع وزارة الداخلية.
وحذّر وزير الداخلية الأسبق من تعطيل إجراء الانتخابات البلدية تحت حجج واهية كالأوضاع الأمنية وغيرها، لأن ذلك سيؤدّي إلى تكلّس السلطة اللامركزية واستفحال الفساد واغتيال الديمقراطية.
أما وزير الداخلية السابق مروان شربل فيعتبر في حديث إلى «البناء» أن نسبة إجراء الانتخابات البلدية 50 في المئة ونسبة تأجيلها 50 في المئة، ويؤكد أن تحديد الظروف الأمنية تعود إلى وزير الداخلية بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية بعد اجتماع مجلس الأمن المركزي الذي يضم كافة الأجهزة ويجري تقييماً للوضع الأمني في كافة المناطق، ويقرّر على أساسه إذا كان الوضع الأمني يسمح بإجرائها، أما الوضع السياسي بحسب شربل فيعود للحكومة التي تجتمع وتعطي رأيها، لأن إجراء الانتخابات البلدية لا يحتاج إلى مرسوم من مجلس الوزراء كما الحال في الانتخابات النيابية، بل وزير الداخلية هو الذي يدعو الهيئات الناخبة ويحضّر العملية الانتخابية.
ويضيف شربل أن القرار السياسي لإجراء الانتخابات بيد الحكومة وكل القوى السياسية المكوّنة لها، ولا يتحمل وزير الداخلية المسؤولية وحده إلا إذا أعطته الحكومة كلمة السرّ لتأجيلها أو التمديد بسبب الظروف السياسية في البلد.
ويشدّد شربل على أن الوضع الأمني في كافة المناطق اللبنانية الآن جيد ويمكن أن تجرى الانتخابات على مراحل بحسب المحافظات إذا لم تكن وزارة الداخلية قادرة على إجرائها في يوم واحد بسبب عدم القدرة على نشر القوى الأمنية في كافة المحافظات، وبسبب انتشار قسم كبير من الجيش على الحدود الشرقية والشمالية والجنوبية للبنان.
القرار لمجلس الوزراء
وحول الوعود التي أطلقها وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق بإجراء الانتخابات البلدية، يشدّد مرهج على أن الوزير المشنوق لا يمكنه إلا أن يقول أنه سيعمل لإجراء الانتخابات، لكن القرار يعود لمجس الوزراء أي أنّ القرار سياسي بامتياز، لأن إعداد لوائح الشطب والترتيبات الإدارية والفنية الأخرى تقوم به الأجهزة المختصة بشكلٍ دوري ومن واجب الوزير أن يستعد ويعدّ لإجراء الانتخابات البلدية أو النيابية لكن القرار لدى مجلس الوزراء.
ويرى مرهج أن الانتخابات إن أجريت، فلن تتغير نتائجها بشكلٍ دراماتيكي عمّا هو قائم، ولن تغيّر في المشهد الخدماتي كثيراً بسبب مصادرة صلاحيات البلديات المالية والادارية، لكن إجراء هذه الانتخابات سيكشف تقصير السلطة السياسية عن إجراء الانتخابات النيابية.
مَنْ يصادر صلاحية البلديات؟
ويضيف مرهج: عندما قصّرت السلطة المركزية في القيام بواجباتها ومهامها لا سيما في موضوع النفايات مؤخراً، نشأت الحاجة داخل هذه السلطة إلى تحميل المهام إلى السلطة اللامركزية أي إلى البلديات وهذا أمر جيد بحدّ ذاته، لكن لا يجوز أن يكون الهدف خلف ذلك التنصل من المسؤولية ورميها على البلديات التي تعاني في الأصل من مصادرة صلاحياتها من السلطة المركزية ولا تمارس حقوقها وصلاحياتها المالية ومحرومة من الأموال المخصصة لها في القوانين، والتي وضعت لدى السلطة المركزية تحت عنوان الصندوق البلدي المستقل، الذي تحوّل إلى صندوق مركزي تتحكم به السلطة المركزية وتعطي البلديات القليل منه وتتحكم به نصوص قانونية غير عادلة وأحياناً غير موجودة، لأن القوانين تنص على تحويل العائدات المالية إلى صندوق البلديات، فلماذا لا تفعل السلطة ذلك؟
ويشدّد شربل على أهمية تجربة اللامركزية المنصوص عليها في اتفاق الطائف، وبالتالي ضرورة الإنماء المحلي لا الاتكال على السلطات المركزية، فلرئيس البلدية والمجلس البلدي صلاحيات واسعة وحرية التصرف بمبالغ مالية معينة لإجراء إصلاحات خدماتية متعددة تهم المواطن.
ويلفت شربل إلى أن تفعيل العمل الحكومي يساعد لجهة اتخاذ القرار السياسي لإجراء الانتخابات، ويذكّر بأن ثلاث عمليات انتخابات بلدية أجريت ونيابية فرعية عندما كان وزيراً للداخلية، لا سيما في الكورة القريبة الحدود مع سورية في أخطر مرحلة أمنية. ورفض شربل منطق بعض القوى السياسية الذي يتحدث عن أنه لا يمكن إجراء انتخابات في ظل السلاح، لأنه الانتخابات البلدية انتخابات عائلية أكثر منها سياسية أو حزبية أو طائفية، ما يعني أنها لا تتأثر بالسلاح ولا بالوضعين السياسي أو الطائفي الداخلي.
ويشير وزير الداخلية السابق إلى وجود 1020 بلدية بينها 50 بلدية منحلة ومستقيلة و15 مستحدثة، ما يؤكد ضرورة إجراء انتخابات بلدية فيها ليتجدّد العمل البلدي وتكريس الديمقراطية، لأن الانتخابات البلدية أهمّ للمواطن من الانتخابات النيابية.
البقاع يستعدّ
ويشير عضو «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب كامل الرفاعي لـ«البناء» إلى أن المناخ الأمني مناسب لإجراء الانتخابات ولا حساسيات عميقة بين المواطنين، ولا خطورة أمنية لإجراء الانتخابات، حيث ستنعكس التحالفات في الانتخابات السابقة على تشكيل التحالفات في الانتخابات المقبلة، وسيجرى العمل قريباً على تشكيل لوائح مشتركة هدفها التعاون لتنمية المنطقة، لكن الأمر يتوقف على مدى استعداد وزارة الداخلية وجهوزيتها وقرار القوى السياسية.
وإذ يوضح أنه لا يمكن إجراء انتخابات بلدية في عدد من القرى الحدودية مع سورية كالطفيل ومعربون لوجودها في محاذاة تمركز المجموعات المسلّحة الإرهابية، يؤكد الرفاعي أن 90 في المئة من قرى المحافظة مستعدّة لإجراء الانتخابات، والوضع الأمني فيها جيد.
أما عضو «كتلة المستقبل» نائب البقاع عاصم عراجي فيقول لـ«البناء» إن العائلات و«تيار المستقبل» على استعداد تام لخوض الانتخابات إذا توفرت النيّة لدى الدولة لإجرائها، لأن الأمر يتوقف على كلّ القوى السياسية بناءً على دراسة الظروف السياسية والأمنية في البلد.
ويؤكد عراجي أن الظروف الأمنية متوفّرة في منطقة البقاع وحتى في عرسال، ولن يؤثر وجود بعض المسلّحين في الجرود على العملية الانتخابية، لكن الظروف الأمنية تتغيّر بين يوم وآخر.
ودعا عراجي الوزير المنشوق إلى الالتزام بوعوده والعمل على إجراء الانتخابات نظراً إلى حاجة البقاع الماسّة للمشاريع الإنمائية.
ويرفض الرفاعي مقولة الطرف الآخر أن لا إمكان لإجراء انتخابات في ظل الوضع الأمني في البقاع، لا سيما في ظلّ انتشار السلاح، ويوضح أن المقاومة تنتشر على الحدود لصدّ القوى الإرهابية التي تريد الاعتداء على لبنان وتهديد أمن مواطنيه، أما الوضع الأمني في داخل المحافظة فجيد على رغم حصول بعض الحوادث الأمنية، لكن ذلك لن يؤثر على العملية الانتخابية، فالعائلات والقوى الحزبية على أتمّ استعداد.
وعن قرار السلطة السياسية، يؤكد الرفاعي أن احتمالات إجراء الانتخابات متساوية، لكنّه يوضح أنه عندما تم تأجيل الانتخابات النيابية في المرّتين السابقتين، لم تكن الأوضاع الأمنية كما هي الآن، ما يفرض على السلطة السياسية إجراء الانتخابات، ولا مبرر لا سياسي ولا أمني لتأجيلها أو تمديدها.
ودعا الرفاعي وزير الداخلية إلى الالتزام بوعوده في إجراء الانتخابات نظراً إلى خطورة عدم إجرائها، لأن المجالس البلدية بعد مضيّ فترة من الزمن يصيبها التكاسل في التعاطي الإنمائي، لا سيما اليوم بعد حصول الكثير من البلديات على أموال من وزارة المالية كعائدات من وزارة الاتصالات للقيام بمشاريع إنمائية مهمة للمناطق، لا سيما في موضوع النفايات.