كيري منسّق لجنة بيكر هاملتون… ماذا يعني ذلك؟

ناصر قنديل

– شهدت النخب السياسية الأميركية ومجتمعات صنّاع السياسة في واشنطن مخاضاً صعباً وفرزاً قاسياً للمواقف والمواقع أصابت الحزبين الديمقراطي والجمهوري بتصدّعات وإعادة تموضع، تحت تأثير الفشل المتنامي في حرب العراق، منذ بدأت ملامحه في صيف العام 2003، مع بدء ظهور طلائع أعمال المقاومة العراقية من جهة، والفشل الذريع لتحقيق الضغط المنشود على إيران وسورية، لتغيير تموضعهما في السياسات الإقليمية، من جهة أخرى، بعد الأجوبة غير المباشرة التي نقلها الوسطاء العُمانيون والسويسريون والألمان عن لسان القيادة الإيرانية، وما سمعه وزير الخارجية الأميركي آنذاك كولن باول بأذنيه من الرئيس السوري بشار الأسد، بعدما حمل إليه شروط واشنطن لعدم تصنيف سورية في قائمة الأعداء، وكان الردّ الصاعق للرئيس الأسد، أنّ سورية عندما يكون الأمر بين احتلال ومقاومة لا تُسأل عن موقفها، فهي حكماً ستكون مع المقاومة.

– سيجد مَن يتابع تلك المرحلة من النقاشات الأميركية الداخلية أنّ اسمَي سيناتورين قد لمعا بصفتيهما، خط المواجهة الأمامي مع سياسة الحرب التي كان يقودها فريق المحافظين الجدد، عبر الرباعي الرئيس جورج بوش الإبن ونائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، ووزيرة خارجيته ثم مستشارته لشؤون الأمن القومي غونداليسا رايس، وهذان السيناتوران هما بالأولوية جون كيري ويتبعه زميله باراك أوباما كممثلين لأرستقراطية الأنتلجنسيا المثقفة في مجلسَي النواب والشيوخ، وأنّ اسم هيلاري كلينتون وزوجها الرئيس السابق بيل كلينتون، كان يُذكر في اللائحة الرمادية بين الخطَّين المتواجهَيْن، وأنّ ترشيح كيري للرئاسة سنة 2004 في وجه الولاية الثانية لبوش الإبن كان ثمرة هذه المواجهة السياسية، وهزيمته كانت إيذاناً بعدم نضج الاشتباك على مستوى الرأي العام الأميركي، وأنّ ولادة وثيقة توصيات اللجنة التي ضمّت الحزبين الجمهوري والديمقراطي وعرفت باسم رئيسيها الجمهوري جيمس بيكر وزير خارجية الرئيس جورج بوش الأب، ولي هاملتون رئيس الكتلة الديمقراطية ورئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس، كانت تتويجاً لمسار المواجهة ذاته، وهي الوثيقة التي يُقال إنّ كيري كان الكاتب الرئيسي لنصوصها، وإنّ ترشيح أوباما للرئاسة كان النتاج الطبيعي لوضعها في التداول، على حساب الرمادية التي تميّزت بها منافسته على الترشيح الديمقراطي هيلاري كلينتون.

– ارتكزت الوثيقة كما بات معلوماً على الدعوة لوقف سياسة الإقصاء والعقاب بحق روسيا على الساحة الدولية والعودة إلى معادلة الشراكة معها لصناعة الاستقرار وملء الفراغات الاستراتيجية الناتجة عن الفشل، والتّوجه بروح الشريك الاستراتيجي نحو أوروبا القديمة، أيّ فرنسا وألمانيا وبريطانيا التي قال عنها رامسفيلد إنها صارت شيئاً من الماضي وقد انتهى زمانها، مع ظهور ما سمّاه بأوروبا الجديدة من جورجيا وأوكرانيا إلى رومانيا وتشيكيا وبلغاريا وبولندا، وتدعو الوثيقة إلى العودة إلى حظيرة الأمم المتحدة كإطار لحفظ الأمن والسلم الدوليين، أما في الشرق الأوسط فقد أوصت الوثيقة بانسحاب القوات الأميركية من العراق ضمن عملية سياسية تشاركية مع الجارين الإيراني والسوري، من ضمن حوار شامل معهما، يقوم على الاعتراف بإيران نووية، وبنفوذ إيراني في أفغانستان والعراق ودور فاعل في أمن الطاقة والخليج، وبالتوازي الاعتراف بمكانة سورية كلاعب إقليمي له دوره في استقرار العراق ولبنان، وفي صناعة السلام العربي ـ «الإسرائيلي»، وما يستدعيه ذلك من تسليم بأنّ «إسرائيل» باتت عبئاً على السياسات الأميركية برفضها الاستجابة لدعوات قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، على الأراضي المحتلة العام 1967 ومع حلّ عادل لقضية اللاجئين ينطلق من القرار 194 دعت الوثيقة إلى الانسحاب من الجولان حتى خط الرابع من حزيران، ومن مزارع شبعا اللبنانية ضمن مفهوم تلازم المسارين اللبناني والسوري.

– صدرت الوثيقة في تشرين الثاني من العام 2006 وقامت في وجهها حرب مموّلة من السعودية ومدعومة من «إسرائيل»، كان أول نتاجها وثيقة فريدريك كاغين الصادرة عن معهد «أميركان إنتربرايز» الداعية إلى بديل يقوم على تشكيل حلف بين مَن تسمّيها «دول السنة» و«إسرائيل»، في وجه ما أسمته بـ«المحور الشيعي»، معتبرة أنّ المواجهة ستغيّر الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وكان تشيني يومها الراعي للإعلان عن الوثيقة، التي أطلق عليها اسم «النهوض» وشهدت وسائل الإعلام الأميركية سجالات ومناظرات بين مناصري الوثيقتين، وكان جون ماكين المرشح الرئاسي الجمهوري المدعوم من الرئيس بوش وفريقه في وجه المرشح الديمقراطي باراك أوباما المدعوم بصورة رئيسية من السناتور كيري الذي خسر انتخاباته عام 2004 في وجه بوش بتعاون اللوبيات «الإسرائيلية» مع التشكيلات الجمهورية بتمويل من السعودية، وهي السعودية ذاتها التي زارها كيري قبل يومين، والسعودية ذاتها التي شكل السجال حولها نصف حملة كيري الانتخابية عام 2004 باعتبارها المصدر الرئيس للإرهاب الذي يهدّد العالم. وفي قلب هذا السجال بين وثيقتَيْ كاغين وبيكر هاملتون كتب كيري في «واشنطن بوست» مقالات عديدة تدافع بصورة رئيسية عن مبدأ الحوار مع كلّ من إيران وسورية، كضرورة استراتيجية لحماية المصالح الأميركية. وفي قلب هذا السجال زار كيري يرافقه السناتور كريس دود سورية والتقى الرئيس بشار الأسد في كانون الأول من العام 2006، وكانت مقالته الأهمّ دفاعاً عن هذا الحوار في «واشنطن بوست» إضافة إلى مقالته الأخرى دفاعاً عن الحوار مع إيران في الصحيفة نفسها في أيار 2008.

– كيري الذي رعى وتابع التفاوض الشرس باسم إدارته مع إيران، وضع نصب عينيه الوصول إلى التفاهم، وهو الذي خاض أشرس الحروب السياسية والإعلامية والدبلوماسية ضدّ الرئيس السوري بشار الأسد، يخوض حروبه هذه من ضمن السعي للوصول إلى أفضل شروط التسويات لحساب بلده، وهو بذلك يضع فلسفته السياسية التي تحوّلت إلى عقيدة عنده، كما يقول تاريخه، أمام الامتحان لإثبات الأهلية والقدرة على صناعة السياسة، بصورة أفضل مما أظهرته سياسات خصومه ومنافسيه من معسكر ماكين وبوش وتشيني ورايس وسواهم.

– زيارة كيري إلى الرياض جزء من مشروع كيري نحو سورية لكنها أيضاً جزء من رؤية كيري للسعودية نفسها، والأيام المقبلة ستحمل الكثير مما يؤكد نهاية الحقبة السعودية في حساب المصالح الأميركية العليا، وما يشير إلى أن تذوّق التعاون مع إيران وثمراته الطيبة، سوف يخفِّض رصيد «إسرائيل» والسعودية أميركياً إلى أدنى الحدود.

– مَن يتابع سيكتشف أنّ ما يجري أمامنا من موسكو إلى عواصم أوروبا، وتجاه إيران وسورية، وكذلك تجاه السعودية و«إسرائيل» وتركيا ليس إلا نسخة منقَّحة من وثيقة بيكر هاملتون في مرحلة ما بعد تطبيق وثيقة كاغين لمشروع فتنة سنية شيعية كان يُراد عبرها تثبيت حكم «الإخوان المسلمين» وتشريع التحالف مع تنظيم «القاعدة»، والساحة الفاصلة بين الوثيقتين كانت الحرب في سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى