«بونجور بيروت»… وثائقي لجورج صليبي يلملم ذاكرة تندثر
جهاد أيوب
حينما نخاطب الذاكرة، نكون قد ضمنّا نصف النجاح، ولكن النوايا الحسنة قد لا تصنع التميّز رغم العاطفة المتدفقة بحق الماضي الذي يسجن في كلمة «الماضي الجميل» حتى لو كان قبيحاً. لذلك، مجرد الانطلاق للحديث عن تاريخ لا يزال حيّاً، نكون قد وقعنا في المحظور والقلق والخوف من النقد المباشر والرفض قبل المشاهدة والتنفيذ، وهذا ما أصاب فكرة انطلاقة فيلم «بونجور بيروت» للزميل الإعلامي جورج صليبي. وأيضاً، أصابنا نحن أبناء بيروت وأهلها ومن عايشها ويعرف تفاصيلها الدقيقة، ورقصنا في زواريبها وشوارعها وعانقنا قصورها ومنازلها، وخاطبنا طيورها وشجرها وألوان نوافذها، وتعصّبنا لها كلّما سمعنا أن «سوليدير» تعمل على إلغاء ذاك التاريخ واستبداله بصور جديدة من دون أناسها وذاكرتها.
«بونجور بيروت» فيلم وثائقي بدأ عرضه السبت الماضي من خلال عرض خاص، فيلم في الزمن الصعب عن مدينة اغتيلت من قبل أهلها في الحرب ومن قبل زعاماتها في السلم، وزوّرت صورها وهُجّر أهلها وتُركت لحجر ليس منها. غامر صليبي في خوض التجربة كتابةً وإخراجاً وسيناريو، وعاونه المخرج المنفذ الياس بو سابا في المونتاج، وقدّمت الموسيقى التصويرية من أعمال المطربة جاهدة وهبة، أما البطولة فخاضها القدير عبد الله حمصي المشهور بـ«أسعد»، وصاحب جملة «بونجور ستنا بيروت» في مسلسل قدم في منتصف السبعينات «دويك يا دويك».
75 دقيقة تذهب بنا إلى فضاءات مشبّعة بالعاطفة الصادقة، بلهفة إلى ماضٍ فيه طيب وصفاء وشوك وجمال وأناقة، والأهم تذهب بنا إلى تأسيس التاريخ قبل أن تغتاله فوهة الطائفية وبندقية رجال الأعمال بحجّة الإعمار، وتجار المكاسب على حساب معابر روح مدينة هرول إليها التاريخ وحضنته باعتزاز، لكنّها خافت ممن سكنها ولم يعرف قيمتها، خافت ممن نطق بِاسمها ولم يكتبها في أفعاله!
فيلم «بونجور بيروت» لا نستطيع الانفلات منه، ولا نقدر على الابتعاد عنه، لا بل يحجم النقد لكونه شُغل بعناية واضحة في كتابة النصّ الرشيق والمتدفق وجداناً، والأهم الكثافة في الصور الشعرية التي ضربت على وتر سياسي بعيداً عن الاتهامات المباشرة، فقط طرح تساؤلات عميقة من دون طرح الحلول، وليس مطلوباً من الوثائقيات أن تقدّم الحل بعدما قدّمت الصفعة.
كما كان لإلقاء السيناريو بصوت جورج نكهة خاصة، وأعطاه جمالية فوق جمالية اختيار الكلمات بدقة، والأهم وضع خبرته في رفع النبرة حينما وجب، وفي استخدام نفسه والتقطيعات كما لو أن الصورة المشهد تطلب ذلك، وهذه أعطتنا راحة وثقة بما نشاهد، وأعطت الفيلم تماسكاً.
العين التي تلتقط الصورة في هذا الفيلم بحثت عن الجمال في الزاوية والمشهد، ولم تكن عيناً غبية، ورغم معرفتنا بغالبية المشاهد والأماكن لم نلحظ هذا الكمّ الكبير من جمالية المكان، وفق المصوّر لكون اللقطة مدروسة وابتعدت عن الارتجال، ربما الإضاءة والصوت في تسجيل كلام بعض الوجوه السياسية والمسؤولة كانت ضعيفة وغير مبررة وكان بالإمكان تلافيها!
انطلق الفيلم من تجوال الفنان أسعد في شارع الحمرا مع التقاط جدارية الأسطورة صباح كقلعة متوهجة، والمقصود هنا أن صباح هي الجزء الأهم في تاريخ بيروت الفني والاجتماعي ومرحلة واكبت التطور الاجتماعي والعمراني والسياسي في لبنان، وقد وفق في التقاط الجدارية والرسالة، ثم وبذكاء يصوّر جماليات المدينة الحاضرة مع الدخول الحساس إلى بيوت بيروت أو ما تبقى منها، وفرض المخرج علينا ذاكرة مشبعة ومتدفقة تجعلنا نتلهف المزيد والمفاجأة، وكم كانت بناية بركات وحكاية الدكتور جورج الشمالي وبيوت داهش وبسترس وطراد وسرسق… ترسم لنا طرق لم نعرف أسرار المحافظة عليها، لا بل كانت هذه المشاهد من دون أن يتحدث عنها أحد وبصمتها صافعة، وقدّمت بذكاء التقاطها.
عيوب
عاب الفيلم تطويل حوارات لا فائدة منها وشهادات شاركت في ذبح بيروت، أكثر من 12 شخصية متنوعة تناوبت الحديث عن بيروت كانت كفيلة لصناعة أكثر من فيلم، ولا ندري سبب هذا الكم من الخطابات والمشاركات والتبريرات، ومن هذه الشخصيات ما فاضت بالكلام من دون قيمة كلامية لمحور الفيلم القضية، وجاءت كحشو لا أكثر، وشعرنا أن بعضها رفع عتب أو مجاملة. وأيضاً كان لشهادة النائب وزعيم الحروب في لبنان وليد جنبلاط المفاجأة خاصة حينما قال: «سوليدير دمرت بيروت» وهو كان الشريك ومن المغطين والفاعلين في تلاشي تاريخ بيروت!!
في بعض الفقرات، لم يكن الصوت على وتيرة واحدة، بل ينسجم مع ضعف إضاءة الصورة، وهذا أربك المشاهدة، كما أن نهاية الفيلم لم تحمّل المسؤولية لأحد بل تركت لنا حرية القرار، ربما تعمّد صليب سذلك من باب المحاور السياسي، ولكن، ومن زاوية شخصية، كنّا نحبّذ أن تكون الصفعة مباشرة لمن يستحقها لا عامة.
جماليات
من جماليات العمل المونتاج الحساس والمشغول برشاقة واضحة، والسيناريو المتدفق شعراً وسياسة وحالات اجتماعية، والتقاط الزاوية الصورة المشهد الصح، أي المصور كان رفيقاً صادقاً لرؤوية المخرج، والموسيقى الرائعة والناطقة، كانت أغنية موجوعة تبحث عن حبيبها، أما الإخراج فحمل رؤية رغم أن الفيلم هو التجربة الأولى لصليبي. وحينما نجد رؤية نقع في كيفية التنفيذ، وفعلاً نجح صليبي في تخطي التنفيذ بدراية ووعي.
فيلم «بونجور بيروت» رسم الدهشة في صعوبة أحياء الروح من دمار الأفعال، وحالة جمالية وتاريخية مطلوبة وفي مكانها يعمل على إنشاء مساحة نظيفة في وطن يشوبه التشويش، الفيلم يصفع الفعل والفاعل والذاكرة والمذكور ويتركنا نتألم، ويصنع رسالة تاريخية لجيل لم يعرف عاصمته، والأهم هو متنفس لسينما وطنية فيها متعة البصر وتحريك التاريخ، ولجم الألسن، ونشر وصايا الحجر والشارع والشجر الذي يكاد أن ينقرض في مدينة استقبلت المنفيين والشعراء والسياسيين والثوار والتشكيليين ولم يقال لها شكراً بل طعنت من الخلف!