الإنسان والمعرفة
د. منصور نعمان
ما المعرفة؟ ما ضرورتها؟
كثيرة هي التساؤلات في حقول المعارف. وضرورة أن يتم التميّز بينها، فالمعرفة أنماط ومستويات، ولها أشكال وقوالب يتم من خلالها التعبير عن طاقة العقل المعرفي. فالحياة البشرية في مهادها الأولى، سعت إلى تكوين عوالم معرفية، وإن كانت رحلة الحياة من القساوة والبطء، ما جعل التقدم المعرفي يسير بخطى متثاقلة، متباعدة، وكان التطور المعرفي من شكل إلى آخر يتطلب حفنة سنين.
إن الأطوار البشرية، والارتقاء الحضاري، والتحولات الكبرى في الحياة، بلورت صورة لما كان يجري من دبيب معرفي، صورة للهواجس التي امتلأ بها فكر الإنسان ونفسه التوّاقة للمزيد.
نفهم ممّا تقدم أن الحاجة إلى المعرفة حاجة إنسانية، معنيٌّ بها الإنسان بدرجة كبيرة، والقصد من ورائها إشباع حاجاته وتطوير قدراته بالسيطرة على محيطه وعالمه، وبالتالي الارتقاء بالوجود الإنساني على الأرض.
فإذا كانت المعرفة في أشكالها الأولى، تكون نتيجة التماس مع المحيط الخارجي، ما يساعد في تشكيل تصوّر حول العالم ذاته، إذ تنقل الحواس تلك الصور المتتالية والمتعاقبة، والتي سبقتها في خزانة الذاكرة، صور حسية، قابلة للادراك، مماثلة أو قريبة أو متناقضة عمّا ينقل من صور، فتحدث المقارنة بين الصور سواء كانت: بصرية، سمعية، لمسية، شمية، ذوقية.
إن العقل البشري، قادر أن يميّز بين تلك الصور من خلال ثقافة الذاكرة، ودرجة عمقها واحتوائها تلك المعارف، بالتالي ستتشكل معرفة أولية لما تلتقطه الحواس، بالمقارنة بما هو معروف عن تلك الصور.
إن التجربة الذاتية، وسلسلة الالتقاط الطويلة والغنية لبني البشر، بلورتا مفهوماً حول العالم، بالتالي استطاع الإنسان أن يميّز الصوَر ويقرنها ببعضها، وتعدى الأمر ذلك بأن يقرن الظواهر الطبيعية والبشرية والاجتماعية، ما يعني تولّد المعرفة لديه، وبالتالي أضحى من الممكن أن يفسر الظواهر، ويحدّد وجهات النظر، ويبني منظوره البشري إزاء كل ممّا يحدث أمامه.
إن فهم الظواهر يعني إمكانية تحليلها والوقوف إزاءها، بعقل متمكن بتفكيكها، وأن يلج الإنسان تلك الظواهر ويخترقها.
والسؤال: كيف يستطيع الإنسان اختراق تلك الظواهر التي تشكل عقبات أساسية أمام رغباته ووجوده؟
ما الطاقة التي يحملها، إذا كانت معارفه محدودة ولا تبلغ اليقن ودرجته؟
إن رغبات الإنسان تفوق إمكانياته المعرفية، وهم السيطرة قد استولى على فكره ـ وإن كان في طور السيرورة ـ لكن الإنسان لا يكفّ عن ابتكار الوسائل والطرائق، ما يمنحه القوة والطاقة اللازمتين لقهر العقبات والتغلب عليها، هذا إذا كنّا نعرف بدقة أنّ إمكانيات البشر المعرفية كانت محدودة بالمقارنة بعصرنا الذي شكّلت المعرفة اخطبوطاً في كل المفاصل الحياتية والعلمية والفنية فيه. ماذا حدث إذا؟ كيف استطاع الإنسان أن يبسط سيطرته والعقل البشري والمجتمعات الحضرية في طور التكوّن والبناء؟ كيف استطاع بسط هيمنته على الحياة البشرية الاجتماعية ويدّعي الغلبة على قوى الطبيعة التي يجنّدها لصالحه، وتكون بيده، يسقط من يشاء ويعاقب أو ينصر من يشاء؟
إن الطاقة البديلة مستعارة من قوى تفوق إمكانيات البشر المحدودة، إنها مأخوذة أو مستقاة من طاقة الآلهة، القادرة والمزوّدة بملكات تفوق في قدراتها وعزمها البشر الفاني الضعيف، لقد استعارت المجتمعات البشرية البكر قبل آلاف السنين، قوة السحر بنوعيه: الأبيض والأسود، الأول لعمل الخير للمجتمعات، ولبناء الوضع الإنساني وتدعيمه، أما الآخر فكان لإيقاع الأذى، وتدمير من يقع السحر عليه، لهذا كان الساحر موقراً وله كلمته في تلك المجتمعات، لقوته بإيقاع الأذى، ولإمكانياته التي تفوق قدرات البشر الأسوياء، وهذا يعني أنه يفوقهم، قوة وقدرة وعزماً، ويسيّر القوى الطبيعية بتمتماته التي لا يفهمها بنو البشر، لكن الآلهة التي بيدها القوى الطبيعيية تدركها وقد تعمل بها. الساحر، باني المجتمع، قالب الموازين، والطاقة المبهمة يسيّرها على وفق إرادته التي قد تميل إلى طرف ضدّ آخر.
إنّ المعرفة بالسحر، مضافة للبشر، من أجل السيطرة وفرض إرادة البشر على ما يجري في الطبيعة والعلاقات الاجتماعية. ويفهم ممّا تقدم، أن شعور الإنسان بوصفه كائناً بشرياً ضعيفاً، كان يتوسّم بالسحر خيراً، لردم قسم من جهله بالحياة. بكلمة أخرى، توسم الإنسان من توسيع سيطرته للتدليل على مهارته بالتفكير والسلوك، باقتناص المعرفة وتسخير قوى ميتافيزيقية، وجعلها تخدم أهدافاً تخصّ البشر.
إن هذه المعارف لم تكن مقطوعة النتائج ولا يمكن الإيمان بها بصورة نهائية، ففي كل قبيلة ومجتمع صغير يمكن أن يكون هناك ساحر، والانتصار أو الفشل يخضعان لقدرات الساحر، لهذا من الممكن أن يفشل الساحر الخاص بالقبيلة الفلانية عن الساحر الآخر في القبيلة الأخرى، والمجتمعات الأولى تحيا بصراع مستميت. لهذا، فإن المعرفة التي قد يتوصّل إليها الساحر ليست يقينية، بل معرّضة للفشل، وإذا ما دخلت القبيلة في حرب مع تلك القبيلة، فإن ذلك سيعرّضها حتماً للهلاك والضياع التامين. وهذا يعني أن البشرية، وإن كانت المعرفة السحرية أضافت إليها القوة، إلا أنّها ليست كافية. فالمعرفة السحرية تستقطب القوى وتجتهد بتسخيرها إلى الجانب الذي يقف إليه الساحر. إلا أنّ النتائج المستندة إلى معرفة الساحر قد تكون وخيمة، وربما تمحق القبيلة تماماً، بخطأ معرفي يقع به ساحر القبيلة.
لهذا، فإن المعرفة بقيت ناقصة، فالإنسان يبحث عن يقين يرتكن إليه، وتطمئن نفسه، وتكون لديه قواعد معرفية لا يرقى الشك إليها.
وعندما تطوّرت الحياة تدريجياً، وتكوّنت الحضارات الكبرى، وانبثقت المدن المستقرّة، واليقين صار أكبر بالإنسان وما يعرفه وما يفكر به وما يخطّط له، واجتياز الإنسان في تلك الحقب التاريخية، مراحل نموّ المجتمعات الحضارية، ما عمق الوعي المعرفي، بأسرار الكون، والحياة والممات، بظهور الأنبياء والرسل والكتب السماوية، التي شكلت انعطافاً هائلاً بطريقة التفكير البشري، بوصف الاديان السماوية جاءت من «العليّ القدير» لهدي البشر، ولتحديد المسارات التي يسيرون عليها، وبالتالي صاغت النواميس البشرية، على وفق المبدأ السماوي. فالمعرفة سارت بطريق مغاير عما كان عليه الأسلاف الأوائل، إذ صار للكون والعالم والحياة، معنى يشتق من الكتب السماوية وتعاليمها التي مهّدت الاستقرار البشري في التفكير، والممارسة الحياتية للتعبّد والطقوس الدينية، وصار المفهوم المعرفي للإنسان، أكثر ثباتاً وتجذّراً ورسوخاً. وتعدّ هذه الحقب التاريخية قد ساهمت بزيادة الوعي البشري المعرفي، ودفعت الإنسان، أن يطلّ من جديد إلى الحياة، باحثاً عن بعض التفسيرات التي تقلقه من الظواهر الطبيعية، العلمية، الإنسانية.
إن ديدن الإنسان هو البحث والتنقيب والاجتهاد، ويعود ذلك بتقديري إلى الحاجة الماسة إلى التعبير عن الذات، وإلى محاولة فرض هيمنتها على ما حولها، وإلى رغبة البشر في الإضافة والتجدد، وإلى ردم الحاجات التي يسعى البشر إلى إيجادها، ظهرت الاختراعات الصغيرة، التي ولّدت بدورها اختراعات أكبر وأوسع وأكثر دلالة على الوعي المعرفي العلمي اليقيني. إلا أنّ خاصية العلم اليقين الموقت لا اليقين الازلي أو الدائم. لهذا، وبفعل الاجتهاد الإنساني فوق الارض، ظهرت الاختراعات والاكتشافات العلمية المذهلة، التي وفّرت للإنسانية جمعاء فرصاً للتطوّر والنماء والرخاء في كل البلدان. فاختراع في مدينة مثل لندن، يعمّ العالم ويستفيد منه كل بني البشر وفي البلدان والمدن كافة. وهكذا استمرت عجلة المعرفة لا تعرف التوقف أو التقاط الأنفاس، فالكل يسعون إلى الإضافة في حقولهم المعرفية في: العلوم، الآداب، الفنون… إلخ.
لم تبخل البشرية بالإضافة، ولم يعد حقل معرفي إلا بمعزل عن حركة التطور والانفجار العلمي والتقني. فالتطوّر صار هدفاً أساسياً، بالاستناد إلى ما تم اكتشافه في الحقل المعرفي ذاته أو ما تمّ التوصل إليه في الحقول المعرفية المجاورة.
إن التساؤلات التي حملها الإنسان وهو جزء من الكون، كانت بحاجة إلى إجابات سديدة، لتزيد من يقينية إيمانه بوصفه إنسان، له طاقة في التعبير عن كينونته من جهة، والإجابة التي تشفي قلقه وهيامه بالمعرفة من جهة أخرى.
إن اكتساح الإنسان ميادين عدّة، في المجالات المعرفية المتنوّعة، إنما غذّت الوجود البشري بالطاقة اللازمة، للديمومة والاستمرار، وأن ينظر بعين العقل المتفائل، بوصف غد الإنسانية هو الأفضل. وما التساؤلات واشتدادها للعقل البشري، إلا مسالك جديدة للتطوّر والرقي، وإيجاد منافذ أوسع في التعبير عن النفس والروح المليئة بالتصوّرات نحو عالم أكثر تطوّراً.
باحث وناقد عراقي