مفاجآت غسان كنفاني المدهشة… التغيير واللغة العمياء! ٢

إعداد: نصار إبراهيم

نورد في هذا المقال، الحلقة الثانية والأخيرة من الورقة النادرة التي قدّمها الشهيد غسان كنفاني في الندوة الاستراتيجية الهامة «أفكار عن التغيير واللغة العمياء»، في «دار الندوة» ـ بيروت 11 آذار 1968. بعدما أعدت طباعتها، وها أنذا أضعها بين أيديكم وأمام عقولكم.

في هذا المخاض الصعب، العنيف طوراً والمرتدّ إلى السكون طوراً آخر، برزت ظاهرة حرِيَّة بالتأمل والتحليل شاعت في المنطقة بغضّ النظر عن الأنظمة المختلفة التي كانت تعيشها بصورة متشابهة تقريباً.

ولم تكن هذه الظاهرة في نهاية المطاف، إلا نتيجة حتمية لمجموع تلك التناقضات التي تكمن خلف وفي المحاولات المتعددة التي شهدتها دول المنطقة في الفترة الماضية.

لقد ولدت في المنطقة خلال السنوات العشر الماضية ما نستطيع أن نسميه لغة عمياء، وليس ثمة شيء يستعمل في حياتنا اليومية أكثر من هذه اللغة العمياء.

لقد باتت الكلمات التي لا قيمة لها، إلا إذا كانت معبّرة، لا تعني شيئاً على وجه التحديد، إن التعريف لم يعد موجوداً وبات لكلّ كاتب قاموسه الخاص يستعمل كلماته في ضوء فهمه الخاص لها، وهو فهم غير متفق عليه، ولذلك فهي لا تعني شيئاً.

إن المعاني التي تحملها اصطلاحات مثل الثورية والناصرية والاشتراكية والعدالة والديمقراطية والحرية لا حصر لها في الكتابات التي نطالعها كل يوم، ولذلك فإنه يبدو من مجرد رصد هذه الكلمات ومصادرها أن جميع الأطراف متفقة تماماً على كل شيء، وما يثير الدهشة أن أحداً غير متفق عملياً مع الآخر.

يبدو أننا في حاجة ماسة إلى إعادة القيمة للكلمات كتعاريف محددة تعني شيئاً متفقاً عليه، وهي خطوة كانت لازمة لجميع شعوب العالم في أواخر القرن التاسع عشر وهي على عتبة انطلاقها نحو العصر.

ستارة

ومضى الإشكال إلى أبعد من ذلك، فصار بالوسع أن يستخدم إنسان ما اللغة ليستر عجزه أو ليخفي مقصده، وصار بين أيدينا الآن تراث من اللغة العمياء التي أفقدت الحوار قيمته الفعلية، ومن الممكن أن تستخدم لأغراض متناقضة في وقت واحد.

إن الاختباء وراء غموض الكلمات هو سلاح أساسي للذي يشعر بعجزه عن تحقيق هدفه، أو الذي لا هدف على التحديد لديه.

وقد أدّى العجز وغياب الفكر الواضح، وما صار يسمى باستراتيجية العمل، إلى ظهور هذا الطابع الذي يغرقنا حتى الأعماق بما يمكن تسميته بالفكر العمائي، الذي يستبدل الوضوح بالتعمي ويرشق غياب الهدف بالكلمات الطنانة التي ترضي الشاعرية الموجودة في أعماق كل منا من دون أن تزيد رؤياه.

إن هذه اللغة العمياء قد تكون، في نهاية التحليل، مبعث اطمئنان أولئك الذين يخشون التغيير، فهي ستارة من ضباب أمام الحركة التي تخيفهم حقاً. وإذ نلاحظ أن ممثلي طبقة معينة يروقهم كثيراً تشجيع هذه الظاهرة التي يعتبرونها ـ تحت ستارة الوطنية ـ تعبيراً صحياً، فإننا نرى في الواقع أنها ليست سوى درع تؤدّي في نهاية المطاف إلى حماية أولئك الذين يجثمون بنفوذهم الاقتصادي والسياسي على صدر حركة التغيير.

هل يمكن أن نسمي هذا المجتمع تمشياً مع رفضنا للطبقة المستغِلة استغلالاً للغة؟ ذلك ممكن بالطبع شرط ألا ننسى أن مسألة الاستغلال ذات حدين المستَغِل والمستَغَل، فإذا كانت تلك وسيلة المستَغِل فما هو دفاع المستَغَل؟

إذا كانت للمستَغِل استراتيجيته الأبعد مدى عن اللغة بالطبع، والتي تخضعها لخدمة ذلك الهدف، فما هي استراتيجية المستَغَل؟

إن ذلك هو الوجه العلمي من الإشكال الذي نستعرضه، وهو يطرح على الفور القضية الأكبر التي ينبغي أن نكون الآن بصددها، إن اللغة العمياء أفقدتنا ـ بالتدريج ـ القدرة على وضع استراتيجيتنا الواضحة في مواجهة التحديات التي تندفع نحونا على جميع المستويات. للعدو الذي يواجهنا على الصعيد الأخطر، والذي ينبغي أمام خطره الماثل أن نخضع جميع تناقضاتنا لمصلحة حل التناقض الرئيسي معه باستراتيجيته المحددة، التي تشكل خط سيره المندفع بشراسة لا تعرف الهوادة.

يطرح بن غوريون مهندس تلك الاستراتيجية وأستاذها خطّه كما يلي ينبغي أن نتخذ من الفتوحات العسكرية أساساً للاستيطان لا يمكن إنكاره، وإيجاد واقع إنساني واقتصادي وثقافي واجتماعي جديد، يجبر الجميع على الاعتراف به وإدخاله في حسابه.

ألا يدرك أصحاب التقاليد والأخلاق الذين يهاجمون حقنا في توسيع حدودنا وضم المناطق المحتلة، أنهم إنما يساعدون العدو الذي ما زال ينازع في الأرض التي تحت يدنا، لأن جزءا منها قد ضُمّ للدولة بموافقة الأمم المتحدة وجزءاً آخر ضُمّ من دون موافقة الأمم المتحدة. إن الواقع يحتم علينا أن نغيّر الوضع في المناطق الحالية بالهجرة والاستيطان اليهودي، لا مبرّر للدفاع عن حقوق العدو الذي يتربص بنا، فلا حق له لدينا .

لقد كتب بن غوريون هذا الكلام في العشرين من تشرين الأول الماضي تشرين أول 1967 في صحيفة «هاآرتس» العبرية معلنا من خلاله من دون أي تردد استراتيجية «إسرائيل» الموجهة حتماً ضدنا.

أمام وضوح في الهدف من هذا النواع، أمام منطق يريد للفتوحات العسكرية أن تكون حقا للاستعمار الإسكاني، حاذفاً مرة واحدة ونهائياً كل حق يمكن أن يكون للطرف الآخر… تصير اللغة العمياء التي تعرفنا عليها أكثر من مجرد ظاهرة لا معنى لها أو عابرة… تصير جريمة.

إنها لا تعرقل فقط طريق وصول الطلائع الشابة، حاملة معها الدماء الجديدة إلى مرتبة القيادة والتأثير، ولكنها تعرقل أيضاً رؤية العدو واستكشاف غوره ومدى خطره، وبالتالي وضع استراتيجية راسخة لمواجهته وإحباط تحدياته.

وذلك كله لا يحدث بالصدفة ولا اعتباطاً، إنه سلسلة متصلة الحلقات تشكل في مجموع دوائرها الصغيرة القيد الذي يكبل انطلاقتنا.

إن ما سمّيناه قاعدة الأبوة ليس في الحقيقة إلا نتاجاً حتمياً للعقلية الاقطاعية وللإقطاع السياسي ومنطق الرأسمال الوطني.

وهذه القاعدة ليست ظاهرة سيكولوجية إلا بمقدار ما تبلورالطبقة الظواهر السيكولوجية.

وما سمّيناه اللغة العمياء ليس مدرسة أدبية بقدر ما هو قيد فكري، طرقت حلقاته على سندان المصلحة الضيقة ليعرقل سرعة حركة التاريخ.

وغياب استراتيجية العمل التي ساهم في تغييبها شعبية اللغة، ورعاية قاعدة الأبوة هي بدورها نتاج حتمي لغياب الديمقراطية الحقيقية الملائمة لملامحنا الراهنة، والتي تلعب دور الدورة الدموية في جسدنا السياسي، ولا تلتقي على تسميات تأخذ في هذا المكان أو في ذاك شكلاً أو آخر متسلحة بمعنى اللغة أو بقاعدة الأبوة.

إذا أعدنا ترتيب جزيئات هذه الصورة فإننا سنحصل على الاستنتاج التالي:

إننا نواجه عدواً نقل معه من الغرب خلاصة التكنولوجيا والتطور العلمي، وأبدى قابلية كبيرة لاستيعاب العناصر الشابة في مراتبه القيادية مستخدماً في ذلك، ليس فقط شكلاً من أشكال الديمقراطية الملائمة تماماً لمستلزماته ومهماته وسرعة عملية التبديل والتطور الجارية فيه، إنّما أيضاً اتصاله العضوي والطبيعي بحركة تطور العصر.

وقد أنتج ذلك كله معاً تصوّراً واضحاً عنده لخطه الاستراتيجي، وأدّى هذا التصور إلى اختصار كبير في التحبيط، وإلى إخضاع جميع التناقض الرئيسي الذي أكدته استراتيجيته تلك والقائم عملياً بيننا وبينه.

لقد كانت النتيجة الطبيعية للدورة الدموية هذه من أولها إلى آخرها، تصويب الجهد الفكري والسياسي والاجتماعي والتكنولوجي إلى هدف واضح ومحدّد من دون هدر ومن دون استخفاف.

وفي المقابل على الجهة العربية لم يكن من المتيسر لظروف تاريخية، تكثيف الطاقة التي طورها العصر، ولكننا أضفنا لذلك هدراً يثير الدهشة لإمكانياتنا العلمية وللدرجة التي استطاعت رغم كل المصاعب تطويرها، وقد أدّت البنى الاجتماعية التقليدية إلى إظهار جمود غير عادي في قابليات مؤسساتنا السياسية والاقتصادية على امتصاص عناصرنا الشابة الدائمة التقدم والدائمة التطور وسريعة التبدل.

وبالتالي فإن عدم وصول الدماء الجديدة بصورة دورية وسريعة وتلقائية إلى مراكز السلطة، بالمعنى العام، كان يزيد، ليس فقط في هدر الإمكانيات، إنما أيضاً في مواصلة الانشطار عن حركة تطوّر العصر.

الديمقراطية

والنتيجة الطبيعية التي نتجت عن هذه الحالة كانت تتلخص في تقديس البنى الفوقية للمجتمع التي شكلت غالبا حاجزاً أمام ما ينبغي من سرعة التبديل، وحتى في الحالات التي كانت قوة ما أفضل بما لا يقارن من القوة التي قبلها، وتستطيع الوصول إلى القدرة على التأثير فإنها كانت تواجه على الفور تلك الجسور المقطوعة التي كانت تفصلها عن البنى التحتية للمجتمع، والتي كانت تؤدي بدورها إلى إبطاء حركة التبديل.

وحتى في ما يختص بالديمقراطية، سواء سمّيت الديمقراطية الثورية أو الديمقراطية التقليدية، فقد ظلت نتيجة لذلك كله، طافية على جلد المجتمع، وعاجزة عن أن تكون دورته الدموية الصحيحة.

وأدّى ذلك إلى تفريغ «الحوار» من كل ما في ضرورة هذه الظاهرة من قيمته، ودفعه بالتالي نحو ما سمّيناه باللغة العمياء التي تشبه ما يسمى شعبياً «حوار الطرشان». إن تقارب شعارات الأحزاب والدول في المنطقة وكذلك دساتيرها مسألة تثير الدهشة حقاً، إلا أن المدهش أكثر هو كمية التناقض الحقيقي فيها.

وبالطبع فإن هذه الأمور كلها قد أدّت تلقائياً إلى غياب استراتيجية العمل بالنسبة إلى العرب، وهذا الغياب يلغي القدرة على تصويب الجهد الفكري والسياسي والاجتماعي والتكنولوجي، بل العددي أيضاً، نحو هدف يخدمه خدمة يومية من دون هدر ومن دون استخفاف.

إن غياب هذه الاستراتيجية ألغى القدرة على ترتيب التناقضات التي تواجهها مجتمعات المنطقة العربية، ومعرفة الكيفية التي ينبغي إخضاعها فيها لمصلحة التناقض الأكبر والمباشر.

ولذلك كله خضنا معركتنا كما يقال من دون استعداد صحيح، ومن دون استخدام إمكانياتنا وبمعزل عن طاقاتنا وبتخلف تكنولوجي مذهل، وبتقليدية سياسية وعسكرية جامدة، ولم يشترك الشعب بمعركته إلى آخر ما هنالك من الكلمات التي يخشى أن يؤدّي تكرار استعمالها إلى اعتبارها حالات عابرة وسلسلة مصادفات سيئة.

ففي الحقيقة ليست هذه العناوين إلا نتائج، وينبغي تفحصها على هذا الأساس وإلا فإن تكرارها هو الشيء الطبيعي إذا كان منطقها نفسه ما زال سليماً لا يمس.

إن خلاف بن غوريون وليفي أشكول ترتد أصوله إلى عام 1917، وقد ظل الإثنان متماسكَين داخل تنظيم حزبي واحد حتى عام 1964، ومع ذلك لا أشكول ولا بن غوريون حسما مسألة الاندماج من جديد عام 1976 ، ولكن الدورة الدموية التي كانت تمدّ الحزبين بالعناصر الشابة هي التي فعلت متجاوبة مع التطورات السريعة بصورة فورية.

فمباشرة بعد حزيران، أُبعِد اسحق رابين وهو في ذروة انتصاره عن رئاسة أركان الجيش «الإسرائيلي»، لأن القانون يحظر في هذا العصر الذي تفوق سرعته سرعة استيعاب أي إنسان له، أن يبقى اسحق رابين على رأس منصبه أكثر من أربع سنوات، وفي الوقت الذي كان اسحق رابين يترك منصبه كانت الوزارة «الإسرائيلية» تصرّ على إبقاء صيغتها كوزارة وحدة وطنية بين عناصر متناقضة يحتد بينها خلاف لا يصدق، ولكن ذلك الخلاف كان لا بدّ من إخضاعه، في ضوء الاستراتيجية المرسومة، لخدمة المرحلة المقبلة التي يتوقع «الإسرائيليون» لها مهاماً أخرى.

إن هذه الأمثلة لا ترمي إلى اعتبار العدو نموذجاً يحتذى، ولكنها تصرّ على أن ما اصطلحنا على تسميته بتوزيع الأدوار بين القوى «الإسرائيلية» هو في الحقيقة ليس كذلك، ولكنه ببساطة حدث تفرضه استراتيجية مرسومة سلفاً هي وحدها التي تضع واجبات وحقوق مرحلة من المراحل، وبالتالي فإن غياب استراتيجية من هذا النوع على الصعيد العربي سيكون من شأنه الوصول بنا إلى ما نكتفي بتسميته خطأ في التقدير، في حين أن الخطأ في التقدير ليس على الإطلاق سبباً إنه نتيجة.

إن ذلك كله يقودنا إلى نقطة جوهرية تتمثل في التساؤل التالي: إذا كانت المسألة في مجملها، وكما قلنا، ليست مسألة تبديل القائد، لأنه في الواقع طرف واحد في الموضوع، فكيف السبيل إذن إلى عصرنة أجهزتنا السياسية والاقتصادية ومؤسساتنا الثقافية وجعلها ذات قدرة على الاستيعاب تتناسب في طاقتها مع سرعة حركة التطور في مجتمعنا؟

إن هذا التساؤل يضعنا في صلب المسألة الديمقراطية، هذا الاصطلاح الذي نفهم منه حكم الشعب للشعب وبالشعب بغض النظر عن المصطلحات التي تُحمِّل كلمة الديمقراطية أقل مما تعني.

وطالما أننا نعتبر البرلمانية مظهراً واحداً للديمقراطية لا الديمقراطية ذاتها، وطالما أننا نقصد بالديمقراطية تلك الدورة الدموية السليمة المتجددة التي تصل إلى جميع أجزاء الجسد الاجتماعي وأطرافه، فإننا مطالبون تلقائياً بأن نجعل الحسّ الديمقراطي ممارسة يومية على المستويات كافة.

لقد شهدت البلدان العربية، في نطاق حوراها مع الديمقراطية تجارب تستحق الدرس، شهد بعضها برلماناً من دون حرية صحافة، وشهد بعضٌ آخر حرية صحافة من دون برلمان، وشهد بعضٌ ثالث برلماناً من دون حرية أحزاب، وبعضٌ رابع أحزاباً من دون برلمان، وبعضٌ خامس شهد برلماناً وأحزاباً وحرية صحافة من دون أن يستطيع ذلك كله معاً أن يكون الديمقراطية الحقيقية، رغم أن كلّ تجربة من هذه التجارب قد وصفت نفسها بأنها الـ«الديمقراطية».

أين الحل إذن؟

إنه من الظلم في الواقع أن نفتش عن الديمقراطية من خلال الصيغ والحكم على وجودها أو عدم وجودها من خلال كمية المظاهر التي تأخذها الديمقراطية في مظهرها البرلماني، فنحن أيضا مطالبون بالبحث عنها في مظهرها الاجتماعي وفي مظهرها الثقافي.

ولكن أبعد من ذلك، نحن في الواقع مطالبون بأن نبحث عنها في مظهرها الإداري وفي مظهرها الجامعي، وقبل ذلك في مظهرها الحزبي.

إنه من المسلّم به أن الحزب بالذات تكثيف للتجربة الديمقراطية، ولذلك فإن قدرة أي حزب وطاقته وجدارته تقاس بحركة الدورة الدموية في جسده، وسوف نرى بالتجربة التي مرت بها الغالبية الساحقة من أحزابنا أنها تشكو من انعدام الديمقراطية داخل أجهزتها ذاتها، وأيضاً في العلاقة في ما بينها.

في داخل أجهزتها كان الرجل المؤسس يأخذ طابع التقديس، وكانت القلة المحيطة به تشكل السقف الذي تصطدم به الحركة الصاعدة للجيل الشاب.

خارج أجهزتها في علاقاتها مع الأحزاب الأخرى، كان الاتهام بديلاً للحوار، وكان التشويه المتعمد بديلاً للفهم المتبادل.

في داخل أجهزتها أدّى التسلط القيادي إلى منع حركة النشوء، وأدّى تقديس الدور القيادي لقادتها الذين لا بديل لهم، إلى الانعكاس في تقييمها لذاتها حين جعلت من نفسها أيضاً قوة لا بديل لها.

وخارج أجهزتها أدّى تقييمها الإيجابي المطلق لنفسها إلى تقييم سلبي مطلق لغيرها.

إن الجسد الاجتماعي يمكن تشبيهه بالجسد البشري، فإذاً كان لكلّ غدة دورها، فإن الخطر ليس فقط في اختلال عملها الذاتي ولكن أيضاً في اختلال علاقتها بالغدد الأخرى.

وبالنسبة إلى الغالبية الساحقة من أحزابنا، فقد عجزت سواء في بنياتها التنظيمية الداخلية أو في علاقاتها مع الأحزاب الأخرى، عن أن تكون نواة الحسّ الديمقراطي الحقيقي. وغياب ذلك الحس أدّى بدوره إلى عرقلة تبلور استراتيجية واضحة، سواء لديها أو في تصورها للدور الذي ينبغي لجميع القوى أن تلعبه معا.

إن التكوين الحزبي تجربة لا غنى عنها، ففيها يتعلم المواطن الوسيلة الأجدى للعب دوره في المسؤولية العامة. فهو لا يكتسب داخلها فقط ثقافته السياسية وتصوره للعمل السياسي ولكن أيضا ما يمكن تسميته بالأخلاق الديمقراطية.

لقد عجزت أحزابنا عن تحقيق هذه المهمة التي لا غنى عنها، ولم تستطع أن تبلور من خلال إطاراتها الطليعة السياسية التي تستطيع أن تلعب الدور القيادي في المجتمع، والتأثير به والتأثر منه في آن.

وأدّى ذلك العجز إلى نتيجة أخطر من حيث القيمة، وهي عجز هذه الأحزاب عن بلورة استراتيجية تتناسب مع ديناميكية المجتمع الذي تصدّت للتعبير عنه، أو عن بلورة صيغة بديلة للصيغ التقليدية التي رفضتها.

وهذا كله يشكل في الحقيقة جانباً من الجوانب التي أدّت إلى ظاهرتين متلازمتين في حياتنا الحزبية وهما: التعدد من ناحية، والعجز عن استقطاب القوى الاجتماعية الفاعلة من ناحية أخرى.

في ظروف من طراز تلك التي يعيش فيها مجتمعنا، يشكل غياب الأحزاب الفاعلة، التي تمثل قوى حقيقية هي في الإجمال مهدورة بلا حساب، خطأ مهلكاً وقصوراً فظيعاً تترتب عليه نتائج خطيرة على مختلف المستويات.

ليس ثمة طريق للخروج من المأزق العميق الذي نعيشه الآن إلا في الحزبية، الحزبية بمعناها الحقيقي الفاعل المنتج التي تمارس داخل أطرها علاقات ديمقراطية راسخة، وتمارس في علاقاتها مع بعضها ذات العلاقة على صعيد حوار بناء ومنتج.

ومثل هذه الشروط للحزبية تلغي ظاهرة التعدد الذي لا مبرر له، والذي هو في جوهره تكرار للأخطاء وللقصور أكثر منه تجديداً للمحاولات وتصعيداً للدور.

لقد اتخذت أحزابنا في تجاربها الماضية صيغة من صيغ التجمع الطائفي أو العشائري أو الطلابي، وهي في مجموعها صيغ لا تحدد قوى اجتماعية حاسمة، وليست ذات حدود ثابتة وواضحة، وقد أدّى ذلك كله إضافة إلى نقل عقدة الأبوة إلى التكوين الحزبي ذاته، وإلى شكل ومضمون علاقاته بالأحزاب الأخرى، لقد أدّى إلى تراكم كمي وليس إلى تطوير نوعي، خصوصاً أن هذه العلاقات مجتمعة قد أتاحت قبول غياب الاستراتيجية للحزب والافتقار لسرعة استيعاب الظروف الموضوعية والارتفاع في إرادة علاجها إلى المستوى الفاعل.

وهذه التجربة لا تلغي قيمة الحزبية، ولكنها تصلح نموذجاً للدراسة والنقد ومنطلقا لعملية تطوير شامل.

لقد أثير في السنوات الماضية نقاش واسع لا نهاية له حول مسألة الحزب الواحد، ومسألة تعدّد الأحزاب، والواقع أنه ليس بالوسع فرض مقياس واحد والالتزام به واعتباره نموذجاً لا غنى عنه، ولا بديل له، فلكل ظرف موضوعي أسبابه وحوافزه واجتهاداته. ومع ذلك فإن الأساس يظل أولاً في قدرة هذه الأحزاب مجتمعة، أو الحزب الواحد منفرداً، على أن يحقق داخل إطاراته التنظيمية وفي علاقاته بالقوى المنظمة الأخرى الدورة الدموية الحقيقية التي تجعله ظاهرة صحية وليس تطوافاً على سطح حلقة مفرغة.

إن الحزب السياسي شكل واحد من أشكال تنظيم القوى الفاعلة في المجتمع، ولكن هناك أشكال أخرى لقابلية التنظيم هذه، تتمثل في التنظيم النقابي، العمالي والفلاحي والمهني، أو في التنظيمات الثقافية التي غالباً ما تلعب، عن عمد أو بتلقائية دور الأرض التي يجري فوقها الحوار البنّاء، وسواء كان التنظيم حزباً أو نقابة أو جمعية، فإن شرطه الأول ينبغي أن يكون سلامة الدورة الدموية في جسده، وقدرته البديهية ليس على الحوار فقط، ولكن أيضاً على توفير طاقة استيعاب ما هو شاب وجديد والتبدل به ومعه. لم تكن المشكلة أبداً في المنطقة ممثلة في استحالة التطور ولكنها كانت أننا لم نستخدم طاقتنا المتطورة لنضاعف حركة تقدمنا.

لم يكن مأزقنا في أننا فشلنا في تفنيد خطئنا، بل كان في أننا لم نتح لقدرتنا فرصة وضع خطة.

لم تكن هزيمتنا فقط لأن القوى التقليدية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً كانت تكبلنا، ولكن أيضاً لأن القوى البديلة كانت مسلحة بالرفض أكثر مما كانت ترفع استراتيجية جديدة ومتكاملة.

ووراء ذلك كله لم يكن عجزنا تعبيراً عن لا جدارتنا، بل كان نتيجة لمنع دماء مجتمعنا الجديد من أن تصل إلى الرأس والذراعين.

عناصر جوهرية

لم تكن المشكلة في أننا لا نعرف، بل في إننا لم نتح لمن يعرف أن يقول أو أن يعمل.

لم تكن في إننا كنا غرباء عن العصر، ولكن في أننا شتتنا وأهدرنا العناصر الشابة التي هي جسرنا إلى العصر.

ومسؤولية ذلك كله، كما حاولنا أن نثبت، ليست مقتصرة على ذلك الفرد أو هذا، أو على نظام دون غيره، أو على تنظيم دون سواه، ولكنها مسؤولية الجميع بدرجات تكاد تكون متساوية.

إن المنطقة برمتها تقف على أبواب منعطف تاريخي حاسم، وليس الانتصار في هذا التحدي إلا انتصار الجميع، وليس في الهزيمة إلا اندحار الجميع.

وأيّ تصور موضوعي تقيمه السنوات القليلة التي تجتازها المنطقة الآن يثبت شيئاً واحداً على الأقل، هو أنه لا يوجد من يستطيع التنصل منه بلا ثمن باهظ، ومهما كان الجدل النظري الذي يمكن أن يشغل الأفكار حول وحدة المصير في المنطقة، فإنه مما لا شك فيه أنها وحدة لا تبدو أشد منها الآن في أي وقت مضى وهي تواجه من خلال الهزيمة المهينة تحديات تصل إلى درجة موت أو حياة.

وهذا التصور يلقي لتوه على كاهل لبنان مهمات قد تكون ظروفه بالذات تهيئه للعبها على نحو مصيري، ليس فقط في نطاق دور يقوم به إزاء التحدي الكبير، ولكن أيضاً في نطاق دور يقوم به إزاء التحديات الأصغر التي يشكل مجموعها قضيته الداخلية.

إن الدور اللبناني هو حصيلة موحدة لثلاثة عناصر جوهرية: فهو واجب وطني والتزام تاريخي، وقدر جغرافي.

وهو من خلال التحديات التي تبرز في كل واحد من هذه العناصر الثلاثة يقف بدوره على المنعطف التاريخي الذي يستطيع في تجاوزه أن يجدّد دماءه ويقطع شوطه في سباقه المزدوج مع العصر.

إن ذلك يحتاج إلى توضيح قاطع للأولويات في سلم التحدي الذي يشكل حضوراً يومياً في المنطقة، والالتزام بالتالي بخطة مواجهة في مستوى هذا التحدي.

ومثل هذا التحديد لا يمكن أن يحدث بالصدفة، ولا من خلال تلقائية أوتوماتيكية، ولكن من خلال إطلاق الطاقة على الاستيعاب عبر جدل حر يستقطب حركة التطور المتسارعة في المنطقة برمتها، ويحيطها بالمناخ الجدير بتفاعلها وبلورة قدراتها البنّاءة.

لا بدّ للمجتمع أن ينظم حواره من خلال مواقف استراتيجية حاسمة، ويتيح للقوى الاجتماعية الفاعلة مداها في ذلك الحوار وتنظيماتها وأحزابها، والوصول بحركة الحوار الصحي إلى درجة إيجاد الصيغة القادرة على امتصاص الطاقة الكامنة في الشعب والتعبير عنها، ومد عروق الدورة الدموية في جسده إلى أقصاها، اتساعاً وعمقاً، وتجاوز الاطارات المحددة نحو قدرة التعبير عن ديناميكية التطور وحيويته التي يحفل بها مجتمعنا.

في الظرف الراهن وطنياً وتاريخياً وجغرافياً، يستطيع المناخ اللبناني أن يفجر الطاقة البناءة للحوار الشجاع والمسؤول، مستقطباً الأصوات التي تضجّ من أقصى القارة العربية إلى أقصاها، ويستطيع من خلال هذا الحوار ومعه وبه أن يطلق طاقته الذاتية نفسها.

أن يلغي القيود التي تفرضها عقدة الأبوة، متيحاً لعناصره الشابة المتدفقة فرصة نقل ديناميكيتها وحيويتها واتصالها بالعصر إلى مستوى التأثير اليومي.

أن يمدّ شعار الوحدة الوطنية شكلاً ومضموناً من صفته الطائفية فقط إلى صفته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضاً، أن يعمّق الحس الديمقراطي إلى مستوى الدورة الدموية التي تفعل فعلها في البرلمان كما في الأحزاب، كما في الجامعات، كما في المؤسسات الثقافية والإدارات نزولاً إلى أعماق التجمعات العائلية.

أن يفتح عيون اللغة ويبصرها ويجعلها ليس تعبيراً عن العجز والغموض والفنائية، ولكن عن الرؤيا الواضحة للقيم والأمور، بحيث يفوِّت على الجدل والحوار لعبة هدر الوقت والطاقة والمواقف.

ربما كان المناخ اللبناني الآن يشكل جواً ملائماً تماماً لشروق جديد في الحوار العربي، شرط أن تطلق فيه طاقته الكاملة على الاستيعاب والتأثير والالتزام بالمسؤولية. إن تفجر حسّ النقد بعد الهزيمة، ظاهرة تشمل القارة العربية كلها وليس من المصادف أن تأخذ بوادرها في لبنان، رغم كلّ ما ينبغي توقعه من تداخل في حدود الجدل والشعارات والنيات، وعملياً يلعب لبنان جزءاً من الدور الذي يستطيعه، ومما لا شك فيه أنه سيلعب دوره الكامل طالما إننا نؤمن في طاقته ومناخه، وبأن الذي سيبقى مهما تعالى الضجيج، هو الذي ينفع الناس.

وذلك كله يلقي بأثقال المسؤولية على كواهل الجميع بمقادير متفاوتة ولكن حتماً بمقادير ملزمة.

يلقي بالمسؤولية على كواهل العناصر الشابة في جامعاتها وأحزابها وعائلاتها، بالمقدار نفسه الذي يلقيه على كواهل الزعماء في نفوذهم وأحزابهم وعائلاتهم ومراكز القوة التي يتمتعون بها.

يلقي بالمسؤولية على كواهل المثقفين ليكونوا عناصر توعية لا عناصر تغميض، عناصر التزام بالبناء لا عناصر تستريح إلى الرفض المطلق فقط.

لقد جاءت الهزيمة فوجدت طاقة هائلة لدى هذا الشعب، لا لرفضها فقط، بل لمراجعة الحساب مع نفسه، والتصدي لتجربته بأقسى ما يمكن من النقد إلى درجة الإيجاع، فإنه إنما يفعل ذلك ليرضي مطامحه التواقة بلا تردد إلى الأكمل والأفضل.

في تجربته الصعبة الراهنة يضيف الإنسان العربي إلى إرادة الصمود عنده إرادة الانطلاق والتصحيح، فقد يكون الانسان العربي هزم في معركة قتال لم يتح له فيها أن يقاتل كما ينبغي وكما يستطيع، ولكن إرادته على الصمود والانطلاق لم تهتز، بل اكتسبت على العكس قابليات إضافية تزيد في صلابتها وتوقها إلى الأفضل، وهو يعبّر عنها جميعاً في تيقظ غير عادي لحس النقد والمراجعة عنده.

ومع ذلك، فإنه من غير الحكمة أن نتصوّر أن الإنسان العربي يجد في هذا التيقظ النقدي تعويضه، وقد تكون فترة الانتظار التي يعيشها الآن على أعصابه مشابهة لتلك التي عاشها عام 1949، أو لتلك التي عاشها الشعب الروسي بين عام 1904 ساعة تلقي اللطمة المدوية من اليابان، وعام 1905 عندما ثار ثورته الأولى التي كانت إرهاصاً لثورته التي جاءت بعد ذلك بعشر سنوات، وغيرت وجه القرن العشرين.

إن ما يحدث الآن ليس المخاض، ثمة شيء عظيم يولد بين ركام الهزيمة مثلما يولد بركان من تحت الشظايا الباردة لجيل مهجور.

فالجرح إذا انفتح في جسد ميت لا يؤدي إلى أيّ اهتزاز، ولكنه إذا ما انشق في جسد حيّ زاد قابليته للمقاومة، وحرّك القوة الكامنة في أعماقه وضاعف من طاقته على الردّ.

إن الجسد العربي الذي تلقّى الجرح يتحرك، يبرأ، يتحفز، يقاوم، يضاعف طاقة حواسه، يقف على قدميه الصلبتين، يعبر جسر العذاب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى