مَن يقف في مواجهة مَن؟ العالم في مواجهة «داعش» أم «داعش» في مواجهة العالم… إلا «إسرائيل»؟
ميشيل حنا الحاج
هذه الحرب الدائرة حالياً ضدّ «الدولة الإسلامية داعش»، تبدو للمراقبين وكأنها فعلاً حرب عالمية ثالثة، كما وصفها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ولكن الرئيس الأميركي باراك أوباما رفض إطلاق هذا الوصف عليها، علماً أنّ الوقائع والمؤشرات توحي بذلك. كلّ ما في الأمر أنها نسخة هزلية من الحرب العالمية الثانية.
فهناك الآن تحالفات عسكرية عدة تضمّ مجموعة من الدول. وأكبر هذه التحالفات هو التحالف الأميركي الذي يضمّ 65 دولة. والى جانبه تحالف سعودي إسلامي يضمّ 34 دولة، ويقابل هذين التحالفين تحالف روسي يضمّ أربع دول فحسب، في وقت سعت فيه فرنسا إثر هجمات «داعش» في باريس قبل شهرين من الآن، إلى إنشاء تحالف آخر، فقام الرئيس هولاند بجولة شملت دولاً عدة أبرزها روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة، لكنه لم يحقق نجاحاً واضحاً، اذ كانت معظم الدول القادرة على ممارسة ضغط عسكري على «داعش»، قد انضمّت إلى التحالفات السابقة بما فيها فرنسا المنضوية تحت جناح التحالف الأميركي.
وعلى أرض الواقع، فإنّ الدول التي خاضت الحرب العالمية الثانية ضدّ ألمانيا، التي التحق بها بعد نشوب الحرب كلّ من إيطاليا ومن ثم اليابان ودول أخرى صغيرة ، هي الدول ذاتها التي تخوض الآن حرباً شبه عالمية ضدّ «داعش»، احتراماً لرغبة الرئيس الأميركي بعدم تسميتها حرباً عالمية ثالثة خلافاً لرؤية العاهل الأردني . بل وعلى أرض الواقع، تضمّ التحالفات الجديدة، دولاً كانت تحارب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية كألمانيا وإيطاليا واليابان التي كانت آنئذ تقاتل دول التحالف الغربي والشرقي، ولكنها الآن منضوية تحت جناح التحالفات الجديدة وفي صفّ واحد معها.
وهذا يعني أنّ الدول المتحاربة في الحرب العالمية الثانية كافة، سواء المنضوية تحت جناح المانيا، كإيطاليا واليابان، والتي اجتمعت في صفّ واحد أطلق عليه اسم تحالف المحور، أو المنضوية تحت جناح التحالف المضادّ والمسمّى بتحالف الحلفاء، وتشكلت من كلّ من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي روسيا الآن وقاتلت الاحتلال النازي، والإيطالي الفاشي، والياباني الامبراطوري، كلها معاً، قد باتت الآن أيّ التحالفين المتضادّين مجتمعة في صفّ شبه واحد، وأقول شبه واحد لوجود خلافات نأمل ألا تطول بين استراتيجية التحالف الأميركي والتحالف الإسلامي، مقابل التحالف الروسي ، ومجمعة على مقاتلة «داعش»، التي لا تشكل إلا حجم رجل قزم قياساً بحجم المارد ألمانيا، والدول التي قاتلت إلى جانبها في الحرب العالمية الثانية، أيّ إيطاليا واليابان ودول أخرى صغيرة.
ولكن هذا الإجماع على مقاتلة داعش، والذي بدأه التحالف الأميركي منذ منتصف العام 2014، أيّ قبل عام وسبعة أشهر، وانضمّ إلى محاربتهم التحالف الروسي قبل أربعة أشهر، والتحالف الإسلامي قبل شهر… ومع ذلك لم توفق هذه التحالفات كلّها، في إحراز نصر واضح على «الدولة الإسلامية داعش»، التي هي ليست دولة، كما قال الرئيس أوباما في أحد خطاباته، منبّهاً الأميركيين بأنها «تسمّي نفسها دولة وهي ليست دولة، إذ لم يعترف بها أحد، وتسمّي نفسها إسلامية، وهي ليست إسلامية، لأنها تقتل المسلمين».
فالأردن كان أكثر الدول إحساساً بخطر «داعش» بعد سورية والعراق اللتين اكتوتا بنارها أكثر من غيرهما. ولكن الأردنيين كانوا يقدّرون بأنّ نجاح «داعش» في السيطرة على العراق، أو على سورية، أو على كلتيهما معاً، انما يؤدّي في نهاية المطاف إلى التوجه نحو الأردن، باعتباره الحلقة الأضعف في دول الجوار. وهذا ما يفسّر الأسباب التي استدعت الأردن للدخول في كلّ التحالفات التي أنشئت بهدف مقاتلة «داعش». فهو عضو في التحالف الأميركي، وفي التحالف الإسلامي، وفي التحالف الروسي أيضاً.
ولكن لا بدّ من التنويه، أنّ هذه التحالفات قد حققت على أرض الواقع بعض النجاح في قتالها ضدّ «داعش». ويقول «عاموس جلبوع»، الصحافي العامل في صحيفة «معاريف» «الإسرائيلية»، إنّ «الدولة الإسلامية قد حققت نجاحاً كبيراً في العام 2014، لكنها تراجعت بعض الشيء في عام 2015».
فعلى أرض الواقع الذي لا يمكن إنكاره، خسرت «داعش» مواقع في العام الماضي، كانت قد سيطرت عليها في عام 2014، ومنها مواقع في محافظة صلاح الدين العراقية كتكريت مثلاً، وكذلك في محافظة التأميم أيّ كركوك ، وقد خسرت الموقعين خلال عام 2015، كما خسرت مدينة الرمادي في محافظة الأنبار مع بدايات العام 2016، وخسرت أيضاً في العام ذاته أي 2016 ، حليفها في الإرهاب – الصديق اللدود – جبهة النصرة، مدينة الشيخ مسكين في سورية. أضف إلى ذلك خسارة بعض مصادر تمويلها، وهو النفط السوري والعراقي الذي تبيعه بثمن بخس. والأهمّ من ذلك أنّ قدرتها على تجنيد مزيد من المقاتلين، كما كان بوسعهم أن يفعلوا خلال العامين الماضيين، قد تباطأ الآن بعض الشيء إزاء التشدّد في مراقبة الدول الغربية وخصوصاً في فرنسا وبريطانيا للمغادرين من أراضيها وفي نيّتهم التوجه نحو سورية أو العراق. إضافة إلى اضطرار تركيا، نتيجة ضغوط الدول الغربية عليها، لإغلاق حدودها ولو نسبياً، أو مؤقتاً، في وجه أولئك الذين ينوون التوجه نحو العراق أو سورية، مما أدّى إلى ظهور كمّ أقلّ من المقاتلين في صفوف «داعش»، لا يكفي لتعويض خسائرهم للمقاتلين الملتحقين في صفوفها والذين قضوا بنيران القوات المتحالفة ضدّها، سواء في الجانب العراقي أو في الجانب السوري.
إلا أنّ هذه الإنجازات للعديد من التحالفات، تعتبر إنجازات محدودة على ضوء قدراتها الكبيرة، وقياساً إلى صغر أو ضآلة قدرات «داعش» العسكرية. فإذا كان التحالف الغربي متضامناً مع الاتحاد السوفياتي، قد استطاعا معاً هزيمة كلّ من ألمانيا ذات القدرات العسكرية الجبارة، وإيطاليا، بل واليابان التي كانت أول من طرح العمليات الانتحارية قبل ظهور الدولة الإسلامية – داعش بسنوات طويلة ، والتي نفّذها الطيارون الكاميكاز اليابانيون، فتعمّدوا الارتطام بطائراتهم بالبوارج الأميركية والغربية، مضحّين بأرواحهم، بغية تدمير تلك البوارج وهزيمة أعداء بلدهم وامبراطورهم ذي الهالة الإلهية… فإنّ قدرات «داعش» العسكرية، لا تقاس بالقدرات العسكرية التي توافرت لدى الألمان واليابانيين. فأولئك، أيّ تحالف دول المحور، قد توفرت لهم مدفعية ثقيلة جداً وبعيدة المدى، ومضادّات أرضية للطائرات المعادية المحلّقة في أجوائهم، وهو ما لم يتوافر بعد في أيدي «داعش» التي تستجدي تزويدها بمضادّات أرضية فعّالة، بل وبصواريخ أرض جو ضدّ الطائرات المغيرة عليها.
ومن ناحية أخرى، وذلك هو الأهمّ، فإنّ دول تحالف المحور في الحرب العالمية الثانية، كان يضمّ ملايين الجنود الذين يقدّرون بثلاثة ملايين جندي في الجانب الألماني والجانب الياباني إضافة إلى الجنود الطليان، وذلك مقابل عشرات الآلاف من المقاتلين في جانب «داعش»، والذي قد لا يزيد عدد مقاتليه على أربعين أو خمسين ألف مقاتل.
ولعلّ أهمّ نقاط الضعف في هذه الحالة، ويرجح عدم الجدية في جانب التحالف الأميركي على الأقلّ، تمثل بعدم استخدامهم القوات البرية التي تعهّد الرئيس أوباما للكونغرس بعدم استخدامها، عندما طلب منه الإذن لمقاتلة «داعش»، مكتفيا باستخدام القوات الجوية وحدها رغم علمه بعدم جدواها دون جنود على الأرض. فالقوات الوحيدة التي تقاتل على الأرض هي قوات سورية وقوات عراقية، مع وجود ضعف هائل في بناء القوات العراقية، نظراً لقيام الحاكم العسكري الأميركي في العراق بول بريمر بحلّ الجيش العراقي فور توليه المسؤولية هناك عام 2003. ورغم شروع الإدارة العراقية الحالية، وبعد زوال الاحتلال، بإعادة بناء الجيش العراقي، إلا أنّ بناءه يظلّ هشاً، وذلك نتيجة الحساسية بين المنتسبين إلى صفوفه من طائفتي السنة والشيعة، وهي الحساسية الناتجة عن بذور الفتنة بين الطائفتين التي زرعها الأميركيون بينهم خلال فترة الاحتلال الأميركي للعراق. ويقول الصحافي «الإسرائيلي» عاموس جلبوع، إنّ من يقاتل «داعش» الآن، هم الأكراد… أكراد سورية وأكراد العراق.
وفي المقابل يتوقع جلبوع، ألا تسكت «داعش» طويلاً. فلا بدّ أن تضرب، كعادتها، في مواقع الضعف في سورية وفي العراق، والأرجح أن تكثف عملياتها الانتحارية للتعويض عن خسائرها على الأرض. فالأرجح أن تضرب في كلّ مكان غير متوقع في العالم، كعادتها دائماً، وكما فعلت مؤخراً في اندونيسيا وباكستان. ويستدرك الكاتب «الإسرائيلي» مقدّراً أنّ ضرباتها قد تطال «إسرائيل» بقوله في مقاله: «فيما قد تكون إسرائيل على بؤرة الاستهداف» أيضاً. ولعلّ تلك العبارة هي ذرّ للرماد في العيون، لاستبعاد الاتهام من بعض العرب بأنّ «داعش» هي من صناعة «إسرائيلية»، بدليل سكوتها عنهم حتى الآن، وبدليل آخر هو أنّ جرحى داعش ومقاتلي المعارضة المسلحة في سورية، وهم بالمئات، غالباً ما يتلقّون العلاج في مستشفيات «إسرائيلية».
ولكن التقاعس الأميركي في مقاتلة «داعش»، وتلك الغارات الجوية المحدودة بل البخيلة التي ينفذها تحالف أميركي يضمّ 65 دولة، قياساً بالغارات الروسية المكثفة، إنما تكشف أيضاً، بل وتعزّز توجيه أصابع الاتهام نحو الولايات المتحدة بكونها أيضاً ضالعة بشكل أو بآخر، بعلاقة سرية خفية مع «داعش». وإلا كيف تستطيع أميركا هزيمة المانيا ذات القوة الجبارة، وهزيمة اليابان المزوّدة بروح الكاميكاز الانتحارية التي تقارن بالروح الانتحارية لدى مقاتلي «داعش» الموعودين بالجنة كي لا نقول بالحوريات أيضاً ، وتعجز مع ذلك بعد قتال دام سنة وسبعة أشهر، عن إلحاق هزيمة واضحة بـ«داعش» التي لا تملك القوة الكافية، أو الكمّ الكافي أو النوعي من السلاح، كما لا تملك الصواريخ المضادّة للطائرات… ولا تملك أيضاً ذاك الكمّ الهائل من المقاتلين قياساً بجيوش ألمانيا وايطاليا واليابان في مرحلة الحرب العالمية الثانية… كيف؟؟
فإذا كان العالم كله يواجه «داعش» الآن، وليس نصفه في مواجهة النصف الآخر، كما في الحرب العالمية الثانية، فإنّ السؤال الذي يفترض طرحه بجدارة: مَن يقاتل مَن؟ هل دول العالم هي التي تقاتل «داعش»، أم أنّ «داعش» هي التي تقاتل العالم، بل وتهزمه أحياناً. فمَن يقاتل مَن؟
هذا سؤال على الولايات المتحدة أن تجيب عليه.
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية THINK TANK
عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الإرهاب ــ برلين.
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي ــ واشنطن.
عضو في مجموعة صوت اللاجئين الفلسطينيين.