المجاملات لا تصنع مساراً…!

علي قاسم

رئيس تحرير «الثورة» ـ سورية

يُفرط المبعوث الأممي في مجاملاته وحتى تلك الآتية من فرضية الفرصة الأخيرة وما تقتضيه من تفاؤل افتراضي، من دون أن تخلو من إغداق في الوعود التي وصلت حدّ الغرق في المجاملات التي انسحبت بدورها لتطبع تحركاته ومواقفه، ولا يتردّد في التعاطي مع المسائل الافتراضية المسبقة من الزاوية ذاتها، حتى تلك التي دفعت بالمحادثات لتطفو على سطح من التكهّنات المنزلقة التي يصعب الفرز فيها حتى اللحظة في هوية المفاوضين أو جنسياتهم أو انتماءاتهم السياسية، ناهيك عن أسمائهم ومدى تمثيلهم الفعلي حتى لأنفسهم.

قد يستطيع المنبر الأممي الذي يمثله السيد دي مستورا أن يجامل إلى ما يشاء، وأن يبتدع من الطرق ما يراه أو يعتقد أنه يمكن أن يصل من خلاله إلى إرضاء من يسعى إلى إرضائه، وبمقدوره أيضاً أن يعدّل – تأخيراً أو تقديماً – في المواعيد المؤتمن عليها، وأن يضيف أو يحذف ما يتخيّل أنه قابل للتصديق، أو يدرك بحكم ما تراكم لديه من معطيات إلى أنه سيكون من المسكوت عنه في نهاية المطاف!!

لكن.. سيكون صعباً إنْ لم يكن مستحيلاً أن تبقى الأمور على هذا المنوال من التعاطي المرتبك مع روزنامة الحسابات الإقليمية والدولية، التي أوصلت الأمور إلى متاهة بدت هي المسيطرة على تفاصيل المشهد، وما يستتبعه من صيغ قابلة للتفسير المزدوج وحمّالة أوجه، وفق اتجاهات تدعو في نهاية المطاف إلى إثارة الشكوك في الأبعاد التي تنطوي عليها من جهة، والتداعيات التي يمكن أن تُبنى عليها من جهة أخرى.

فممارسة أقصى درجات البرود في ردّات الفعل على مماطلة المعارضات الآتية بوصايا السعوديين وأوامر الأميركيين يعيد رسم إشارات استفهام كبرى على أداءٍ بات يضيّع الوقت على تفاصيل وصلت حدّ إدراج اللقاءات في باب المجاملة، والتي قرأتها المعارضات وفق تصريحات الناطقين المتعدّدين باسمها على أنها خضوع مباشر لشروطهم، وهي رسم بياني لخطوط تتقاطع وتبني عليها ما يمكن أن يشكل عكازاً سياسياً متفجّراً، يحمل في طياته الصاعق المنتظر لتفجير الجهد الدولي، أو إعادة صياغته وفق توجّهات الأجندات التي نسقتها قوى إقليمية ودولية لا تريد للمسار السياسي أن ينطلق.

فالمجاملات.. ربما تصلح في اللغة الدبلوماسية، وربما كانت جزءاً من مفرداتها، وأحياناً من خطواتها البروتوكولية، وقد تكون شائعة بلغة التقريب بين الأفرقاء، لكنها في حقائب الأمر الواقع تصبح أقرب إلى لغة التعطيل والتسويف، وجزءاً من لعبة التفخيخ، فعندما تتعلق بالوقت الذي يضيع في فراغات من التشتت يكون لها توصيف آخر، وعندما تكون سبباً مباشراً أو غير مباشر لكثير من التأويلات تتحوّل إلى مصيدة سياسية لا تكون دائماً بريئة مما يعلق بها من إضافات، سواء جاءت بالمصادفة أم كانت بحكم التراكمات التي أتخمتها.

عند هذه النقطة كانت التساؤلات المريبة من الخروق المستمرة التي مارستها معارضات الرياض للوقت وللبروتوكول وللاتفاقات المعقودة مع المبعوث الأممي ذاته، قد طفحت من الكيل الأممي، وجاءت التسريبات الموازية واللغة التصادمية المحمولة بألسنة لا تعبّر عن تلك المعارضات، بقدر ما تعكس وجهة نظر الدول الراعية لها، سواء أكان تمويلاً أم توجيهاً ومساندة، عبّرت عنها لقاءات التنسيق في السفارة الفرنسية وتوافد العشرات من خبراء الاستخبارات الغربية لإدارة الكلمات التي تنطق بها تلك المعارضات.

ما يعنينا بالفعل.. أنّ التورّم في حالة المجاملة أفقد الدور الأممي الكثير من أوراقه التي اعتمدها في مقارباته، حتى عندما أعلن بدء المحادثات – رغم التأخير وربما يقف في جزء منه خلف تجميدها الذي كان فرض حضوره على معطيات المشهد ليكون موازياً من حيث المبدأ لحالة التعطيل التي مارستها تلك القوى، عندما استنفدت آخر ما في جعبتها بلعبة الشروط المسبقة، فانتقلت في اليوم التالي إلى شدّ الحبال الباحثة من خلالها عن أرباح المبازرات السياسية، لتكون قطافاً تحاول من خلاله أن تشتري رصيداً ولو كان افتراضياً وغير متاح صرفه شعبياً أو سياسياً.

المجاملة لا تصنع مساراً.. وتحديداً في مسائل تبدو متحركة ومنزلقة، وفي قضايا جوهرية وحساسة تعني وجود وطن ومصير شعب ومواجهة إرهاب يشكل خطراً على الجميع، وباعتراف الجميع ولو مواربة، أو بصيغة المداراة لرعاته ومموّليه، حيث المجاملة تكون شراكة ولو غير مقصودة.

الأخطر ما يتمّ تداوله وما تكشفه الكواليس والأروقة السويسرية الممتدة أبعد مما هو قائم في جنيف، تحديداً في ما يتعلق بالمجاملات وما تحمله من أفق تسويف غايته تقطيع المزيد من الوقت، حتى أنّ الإعلان الأممي عن البدء الفعلي للمحادثات ليس هناك ما يشاطره في تلك الأروقة التي تغلب عليها لغة شديدة التشاؤم والسوداوية وتضع الطاولة على أرجل متفجرة وتقف على أرضية مفخخة قابلة للانفجار في أي لحظة، وهي ربما كانت كلمة السرّ التي أرادها رعاة الإرهاب وداعموه أن ينطقوا بها أو يتفقوا على مفرداتها، ولو اقتضى الأمر أن تكون بلغة جنيف أو مرادفة لها.

تنشر بالتزامن مع الزميلة «الثورة» ـ سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى