مرويّات تاريخيّة قصّة شراء أرض الوقف المارونيّ لبناء دار الزعامة

لبيب ناصيف

المعروف أن الحزب اهتم عام 1948 ببناء دار لسعاده في بلدته ضهور الشوير، وشكل حضرة الزعيم لجنة لهذا العمل تألفت من الأمناء عبدالله قبرصي، جورج عبد المسيح، أديب قدورة، إدغار عبود والرفيق خالد جنبلاط 1 وأصدر مرسوماً بتعيين الأمين قبرصي رئيساً. هذا ما أورده لنا الأمين عبدالله قبرصي في لقاء معه بتاريخ 11/01/2003. يضيف أن المهندسين الأمين إدغار عبود والرفيق وليم سابا توليا وضع الخرائط والإشراف على التنفيذ. أما فكرة بناء دار الزعامة فتعود والكلام للأمين قبرصي الى الرفيق «الشيخ» عبد الله الجميل 2 .

أما قصة شراء قطعة من الأرض تابعة للوقف الماروني فقد رواها الرفيق فريد صباغ 3 الذي كنا نتردد إليه في منزله في ضهور الشوير.

روى لنا الرفيق صباغ أن سعاده بعدما كان اشترى قطعة أرض من وقف دير مارالياس شويا للروم الأرثوذكس، في مكان يدعى المطل يشرف على المنطقة الممتدة من البحر وصولاً الى قمم جبل صنين، قرر بناء منزل له في تلك البقعة. فكلف المهندسان الأمين إدغار عبود والرفيق وليم سابا بوضع الخرائط .

بدأ العمل بوضع الخرائط لنيل رخصة البناء، وبعد الانتهاء من الأمور الهندسية والاستحصال على الرخصة بوشر بدرس كيفية التنفيذ، فكان رأي الزعيم أن يتمّ وضع دفتر شروط عام لوضع المشروع في المناقصة، فلا يكون التنفيذ بانتقاء أشخاص وتلزيم العمل بواسطة الاستنساب. لذا نشر إعلان بتحديد موعد المناقصة حسب دفتر شروط كامل، وفي اليوم المحدد تقدم عدة أشخاص، قوميون وغير قوميين، وبعد فتح الظروف رسا الإلتزام على السيد فؤاد نجيب خنيصر 4 ولم يكن منتمياً الى الحزب في ذلك الحين، فحصل اعتراض من المتعهدين القوميين بالقول: لا يمكن إعطاء هذا الالتزام لشخص غير قومي ووضعوا اللوم عليّ فريد الصباغ ، فأجبتهم، أيها الرفقاء ليست هذه هي إرادتي، بل إرادة الزعيم وقد قرر تلزيم العمل للسيد فؤاد خنيصر وسلمني وكالة عامة تخولني توقيع الاتفاق وإدارة المشروع، وهكذا انتهت المرحلة التحضيرية الأولى وتمّ وضع الاشراف الهندسي والفني بأكمله تحت رعاية المهندس إدغار عبود.

في أثناء مرحلة حفر الأساسات، حضر الزعيم ليطلع على العمل وكان معه الأمين وديع الياس وبعض الرفقاء، طلب مني أن أشرح له على الخريطة، موقع الغرف والصالونات والمطبخ والحمامات ومكتب الزعيم، وقد شدد كثيراً لمعرفة موقع المكتب، فأجبته والخريطة بين يديّ أن موقع المكتب هو المكان الذي نقف عليه، قال: هنا؟! أجبته نعم، فأدار وجهه للبحر واطمأن بأنه يستطيع مشاهدة البحر، ومن ثم استدار ناحية جبل صنين فلم يستطع رؤيته، فقال لي: يا حضرة الرفيق، هذا المكان خطأ لأنني لا استطيع رؤية جبل صنين من مكتبي، فأنا أريده مشرفاً على البحر والجبل في آن معاً. فقلت له يا حضرة الزعيم مكتبكم في الطابق الثاني لا في الأرضي، وعندما يصبح على ارتفاع أربعة امتار يصبح إشرافه على البحر والجبل مؤكداً. عندها رغب أحد الرفقاء تسلق شجرة صنوبر كانت الى جانبنا للتأكد من إمكانية مشاهدة صنين عن علو 4 امتار، فمنعه سعاده وتسلّق بنفسه شجرة الصنوبر، وعلى ارتفاع أربعة أمتار توقف وقال: ما زلت لا أرى الجبل، عليكم أن تعيدوا النظر في موقع المكتب، فيجب أن يزاح ستة أمتار من هذا المكان، وقدر المسافة بست خطوات نحو الجبل ثم قال: هنا يجب أن يكون، وعليكم تغيير الخرائط. قلت له يا حضرة الزعيم إن هذه الأرض تخص وقف دير مار الياس الماروني 5 فأجاب: لا مانع، اشتروها. قلت له يا حضرة الزعيم إن الموارنة «قايمين القيامة علينا» ومعترضون على تشييد دار الزعامة في هذه المنطقة تجاه الدير تماماً، وأنتم تعرفون بأن بطريرك الموارنة وزّع كتاباً ضدنا يحرّم كنسياً كل من يدخل هذا الحزب معلناً الحرب علينا. أنت تعلم بكل ذلك، فكيف تريدنا أن نشتري الأرض؟! سألني: من هو رئيس الدير؟ فقلت له الأب يوسف داغر من بكفيا، سألني: الأب داغر الذي قابلني البارحة في المنزل عندكم؟ قلت له هو نفسه، قال: كيف تجيبني هكذا وقد عرّفتموني عليه بأنه انتمى الى حزبنا وأقسم اليمين؟! أجبته بأن ذلك صحيح ولكنه انتمى الى الحزب سرياً ولا احد يعلم بذلك، فقال لي «ما بعرف» يجب عليكم إنهاء هذه القضية، وإلا فلا أريد أن أبني هذا المنزل هنا، وكان كلامه صارماً لا يقبل الجدل، وطلب من الأمين وديع أن يستدعي رئيس الدير الأب يوسف داغر.

عندما حضر الأب داغر بحث معه حضرة الزعيم شراء قسم من أرض الدير فيتمّ نقل بعض الأساسات الى الأرض الملائمة، فكان جواب رئيس الدير أن الرئيس العام الأب مهنا سيمانع بشدة، سأله الزعيم أين مقر حضرة الأب مهنا؟ فقال له في دير اللويزة، فطلب من الأب داغر أن يأخذ له موعداً لمقابلته. صمت الأب يوسف صمتاً طويلاً، ثم أعاد التأكيد على الموقف السلبي للأكليروس الماروني وقرار الحرم الصادر عن البطريركية.

أجابه الزعيم: وإذا ذهبنا من دون موعد هل يقابلنا حضرة الأب العام؟ أم يطردنا من الديرٍ؟ أنا قررت النزول الى دير اللويزة ولكن أريد أن أطلب منك أن تقول لي متى يكون الرئيس العام في الدير؟ أجابه الأب يوسف: كل نهار جمعة ينعقد اجتماع مدبرين، وهذا المجلس مؤلف من سبعة أشخاص، وجميعهم من خريجي معهد اللاهوت في روما ويحملون شهادات عالية كالدكتوراه في اللاهوت أو في الفلسفة. عندها التفت الزعيم إلي وقال «دبر سيارة يوم الجمعة لنذهب الى دير سيدة اللويزة، ويجب أن تكون معي أنت ووديع ووليم سابا، وأنت يا حضرة الأب أين ستكون؟» أجابه الأب داغر سأنتظركم في مقر الرئيس العام من دون أن اعلمه بأمر الزيارة.

وصلنا الى دير سيدة اللويزة عند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر في سيارة الرفيق مخايل كيوان صاحب فندق «ريجنت اوتيل» على البرج وهو قومي اجتماعي وكان يملك سيارة كاديلاك، وكان اجتماع المدبرين منعقداً، فوصل الخبر الى الرئيس العام بأن الزعيم انطون سعاده في الدير ويريد مقابلته، وقع الخبر عليه وعلى المدبرين كالصاعقة، فأخذوا يتداولون في الأمر وكان البعض منهم يقول: لماذا هذا الخوف من أنطون سعاده، وأخيراً استقر رأيهم على مقابلته، فدخلنا الى مكان الاجتماع، وبعد السلام والتحيات والكلام العام، انتقل سعاده الى شرح مبادئ الحزب بإسهاب ووضوح وصدق.

استغرق هذا الشرح ما يقارب ساعة ونصف ساعة، والجميع يصغون بانتباه تام، وكان البعض يطلب بعض الإيضاحات والتفسيرات من الزعيم، وكان الزعيم يجيب بكل جرأة وانفتاح خاصة في الأمور المتعلقة بالإلحاد. تبيّن لنا ان البعض من الحاضرين كان لديه اطلاع على المبادئ ومقتنع بصحته ومنتمٍ الى الحزب بشكل سري للغاية، وقد استنتجنا ذلك من طريقة ونوعية الأسئلة التي طرحت على الزعيم، الأمر الذي جعله يتأنى بالإجابة عليها كي يفهم الرئيس العام أن لا خوف على المسيحية من هذه العقيدة، بل إن الانتماء إليها يعززها ويصون قيمها الروحية.

كم كنت أتمنى لو استطعنا تسجيل هذه الجلسة وما دار فيها من مباحثات قيّمة وعميقة، خاصة في ما يتعلق بالمسيحية والخوف عليها وحتمية ضمان انتشارها ضمن الكيان السوري، والأمثلة التي أعطاها الزعيم، كثيرة عن الأعضاء المسلمين والدروز والمسيحيين المنتمين للحزب وقد أصبحوا جميعهم شخصاً واحداً بفضل النهضة القومية.

عند انتهاء هذه الجلسة الطويلة كنا قد تأكدنا تماماً أن الرئيس العام الأب مهنا وجميع المدبرين العامين أصبح لديهم الاقتناع التام بأن مبادئ وأهداف الحزب السوري القومي الاجتماعي هي ضمانة للمسيحيين كما هي ضمانة للمسلمين، خصوصاً لدى النشء الجديد في المعاهد والمدارس. طيلة هذه الجلسة لم نتطرق قط الى قضية شراء الارض، فعندما خرجنا قلت «يا حضرة الزعيم اقتصرت زيارتنا على شرح مبادئ الحزب وأهدافه ولم نتكلم ابداً في الموضوع الذي أتينا لأجله، وهو شراء الأرض من وقف الدير كي يصبح مكتب الزعيم مشرفاً على المنطقة من البحر، الى جبل صنين! أجابني: هذا لا يهمني أبداً لأنني اشتريت في هذه الجلسة ما هو أهم بكثير من الأرض، فقد اشتريت نخبة جيدة جداً من كبار المثقفين وأصبحت الأرض أمراً ثانوياً.

في اليوم التالي لمسنا أول رد فعل لهذه الزيارة، إذ أوعز الرئيس العام ومجلس المدبرين لرئيس الدير الأب داغر أن يبلغ حضرة الزعيم أنه أصبح بإمكانه أن يأخذ من أرض وقف الدير ما يريده، وهم مستعدون لكل مساعدة، وأهلاً وسهلاً به.

عندها جلبنا مسّاحاً وفرزنا قطعة من أرض وقف الدير مقدار حاجتنا. جدير بالذكر أنه عندما عرضنا تسديد ثمن الأرض الى الرئيس العام ورئيس الدير، رفضا ذلك وقدماها هدية للزعيم، الذي اعترض على ذلك قائلاً: أنا لا أريد أخذ شبر واحد من أرض الدير من دون أن أدفع ثمنه، وعندما تشبث الآباء بموقفهم، أمرني الزعيم أن يتمّ لقاء ذلك إيصال الماء والكهرباء والهاتف وشق الطريق للدير من دون أي مقابل، وهكذا حصل، فأدخلنا ماء «المنبوخ» والكهرباء والهاتف الى دير مار الياس الماروني قبل إيصالها الى دير مار الياس الأرثوذكسي.

هذا الرسم أعلاه تصدّر غلاف العدد «يوليو 1948» من النشرة الرسمية، وفي متن النشرة نص النداء الذي وجهته لجنة بناء دار الزعامة الى القوميين الاجتماعيين وأصدقائهم في الوطن وعبر الحدود، والى جانب النداء، نشرت اللجنة لائحة جديدة بأسماء مساهمين بالتبرع، من رفقاء وأصدقاء.

الذين تسنى لهم التردد الى دار الزعامة قبل أن يتعرّض للتخريب والدمار، يعلمون أن الدار لم تشيّد طبقاً للرسم المبيّن أعلاه، ونأمل ممن يملك أي توضيح أن يكتب لنا .

أوردت النشرة الرسمية 15/12/1947-1/1/1948 هذا البلاغ الصادر عن عمدة المالية وموضوعه «تشييد دار للزعيم».

بعد عودة الزعيم، وخصوصاً بعد قدوم عائلته، اتجهت أنظار القوميين الاجتماعيين الى تشييد دار للقائد الهادي الذي ترك كل شيء خصوصي في سبيل الأمة والمجتمع القومي الاجتماعي.

انبثقت الفكرة من أحد الأمناء، وما أن أعلنها لبعض الرفقاء حتى سرت كالبرق في أوساط الحزب القومي الاجتماعي وابتدأت ترد على عمدة المالية تبرّعات ورسائل تسأل عن الفكرة وهل صارت مشروعاً عاماً.

ويسر عمدة المالية أن تعلن للقوميين الاجتماعيين أن الفكرة اتخذت أخيراً شكل مشروع يساهم فيه كل على قدر استطاعته. وقد تقدم الرفقاء وليم سابا، وإدكار عبود، وعبد الفتاح زنتوت، لوضع مخططات البناء. والتبرعات التي وردت الى الآن تسمح بالبدء في العمل، ويترجح الابتداء في التأسيس والبناء في الشهر القادم.

مكان البناء: في ملك الزعيم في ضهور الشوير على تل يشرف على البحر ومدينة بيروت.

وقد كلفت عمدة المالية الرفيق يوسف ضاهر تاج، الذي دفعته حميته ومحبته للزعيم للتطوع لهذا الغرض، زيارة المناطق الحزبية لجمع التبرعات وزودته بوثيقة تثبت هذا التكليف فيمكن القوميين الاجتماعيين اعتماده.

هوامش

1 تولى مسؤوليات حزبية عديدة، بينها ناموس الشعبة السياسية في لبنان. من البرامية، شرقي صيدا.

2 سبق أن كتبنا نبذة غنية، عنه. لمن يرغب في الاطلاع الدخول الى أرشيف تاريخ الحزب على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info، من مسؤولياته منفذ عام بيروت.

3 رافق سعاده فترة طويلة، كان منفذاً عاماً للمتن الشمالي وناشطاً في المجال السياسي. لحفيديه حضور مميز في مجال المسرح الغنائي.

4 شقيق الرفيق جميل خنيصر والد الأمينة مارلين حردان والأمين نجيب خنيصر والمواطن الصديق فؤاد.

5 يقع «دير مارالياس الماروني» الى جوار دير مارالياس الأرثوذكسي، ويشكلان بناء متلاصقًا.

رئيس لجنة تاريخ الحزب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى