بثينة علّيق… نجوميّة إذاعيّة تكسر معادلة الاحتلال الفضائيّ

جهاد أيوب

تحتلّ المذيعة الإعلامية بثينة علّيق مساحة كبيرة ومهمة في مسامعنا، ونتابعها بشكل جدّي، لا لأننا نتفق معها سياسياً أو لأننا عكس ذلك، بل لأنها تملك أدواتها الإعلامية المتّزنة، والواثقة من حضورها، والغنية بمعلوماتها، والملتزمة بمرونة فكرية وسياسية. حواراتها مفيدة، وأسئلتها قصيرة وواضحة وفي مكانها، وتُدخلها بين كلمات الضيف محسوبة وغنية بعيداً عن إزعاجه، كما لا تربك الضيف لفرض عضلاتها بحجّة أنها الأفهم والأهمّ.

منذ أن أطلّت الإعلامية المميّزة ماغي فرح عبر إذاعة «صوت لبنان» في منتصف السبعينات من القرن الماضي، لفتت بنشاطها وتميّزها وثقافتها ونعومتها المستمعين جميعاً، وتربّعت عبر «الحكي بيناتنا» الصباحي على عرش المتابعة، وأضافت إلى المحطة نجاحاً وتميّزاً. ورغم اختلافنا آنذاك مع سياسة ماغي أو اتفاقنا، إلا أنها كانت تفرض موهبتها وحراكها وجدّيتها وتقنيتها على الجميع. والأهم أنها لم تكن طرفاً في حينه خلال حواراتها رغم حزبية المحطة، وتوجّه ماغي السياسي.

وبعدما تركت ماغي العمل الإذاعي خفّ وهج النجم في الإذاعة إلى أن جاءت وردة لتكمل المشوار، ومع احترامنا لجهودها لم تتمكن من الانتشار الواسع الذي كانت تغطّيه ماغي، والسبب بسيط جداً، أي أن وردة كانت طرفاً واضحاً في حواراتها ما أفقدها الكثير من وهج الحضور والمتابعة، وكذلك اختلاف الظروف السياسية والجغرافية والاقتصادية والحزبية والإدارية.

غياب النجومية

منذ ذلك الحين، والنجومية الإذاعية السياسية غائبة كلياً، وحضرت جهود عادية جدّاً من هنا وهناك إلى أن بدأ صوت بثينة علّيق ينطلق منذ سنوات عبر شبكة إذاعة «النور». تمكّنت بثينة من شدّ انتباهنا كما كانت تفعل ماغي فرح، رضينا بذلك أن تعمّدنا تغيّبها بسبب عقدة سياسية وحزبية وطائفية وعنصرية أو ما شابه، فنحن في وطن العنصرية والتحزّب لا نقبل الآخر ما دمنا لا نتفق معه. وكلام حقّ، أنّ بثينة اليوم هي الأفضل والأكثر نجومية إذاعية كانت مفقودة قبلها، مع أنها تعمل في مجموعة لا تشجّع على النجومية الإعلامية، ولا تشجع على تميّز من يعمل معها خوفاً من الغرور أو فرض الرأي، معتبرة أن الكل سواسية ومتشابهين، ربما للفكر الحزبي الذي يحدّد من انطلاقة العاملين في الإذاعة أو لوجهات نظر اقتصادية، أو توجهات خاصة لا نعرفها، وهذه نظرية الخطأ الكبير التي تضرّ باستمرارية نجاح الإعلامي، وتقوقعه حتى الملل والفرار أو الاعتزال أو الانسحاب، فالاعتراف بتميّز هذا أو ذاك يفيد رفاقه، ويزرع المنافسة المطلوبة كي يستمر النجاح والتفوق، وبصراحة قلّما نجد في المؤسسات الإعلامية الدينية الحزبية وتحديداً الإسلامية منها منافسة نجومية مثقفة في الإعلام. وهنا مع بثينة الصورة واضحة، ويجب أن نساندها كي تستمر في تقديم صورة جديدة وواعية عن الإعلامية المثقفة والمختلفة والمجتهدة، وصاحبة خط وأسلوب لا يشبهان غيرها، والأهم أنها إعلامية ملتزمة سياسياً واجتماعياً، وواعية حزبياً ووطنياً.

تدرك بثينة علّيق حينما تقدّم فقراتها السياسية الصباحية عبر إذاعة «النور» أنها لا تخاطب جمهور الإذاعة الحزبي فقط، لا بل، ونظراً إلى حنكتها و«شطارتها» ومنطقها وموضوعيتها، تجذب الجمهور الآخر لهذه الفترة السياسية، كما تدرك أهمية الصوت والمعلومة والتواصل مع المستمع لذلك هي تتحدث بهدوء واتزان، وبسرعة مدروسة كي توصل المعلومة ووجهة نظرها بعيداً عن الحشو الكلامي والضحك الرخيص. متزنة في التواصل والحوار والقراءة، تعرف اختيار مادتها، وسؤالها ومفرداتها. ومخارج حروفها السليمة تثبت تقنيتها، واستخدامها الصحيح للنفس، ومعرفة بأصول البوح وسرعة البديهة.

الاختيار

تبدأ في التاسعة والنصف صباحاً بتقديم ما ينشر في الصحف المحلية، تختار ما هو مهم، وما يفيد المستمع، لا تقرأ عناوين الصحف كالببغاء، بل تختار بعناية وبدقة ما هو لافت من معلومات ربما يمرّ عليها البعض مرور الكرام رغم أهميتها، هي تلتقطها بحسّها الإعلامي الفاهم، وتقدّم في صباح كلّ أحد ما ينشر في الصحف العالمية بطريقة رائدة وغنية، وتحاور من خلالها إعلاميين عرباً ومحليين ليعلقوا بمسؤولية على ما يكتب هناك من دون أن تتدخل في آرائهم. أما الفقرة الأساسية عند بثينة، فتكمن في الحوار السياسي اليومي الذي ينطلق من العاشرة صباحاً ولمدة ساعة. استضافت حتى الآن أكثر من 3000 شخصية، ساعة واحدة غنية جداً أفضل من عشرات الثرثرات في زمن الكلام ، وفيها درس لكيفية أن يكون الإعلامي سيد مكانه، ويدرك ما يفعل، ومن يحاور، ولماذا يحاور ويطرح الأسئلة، نجدها تعلم كلّ كبيرة وصغيرة عن ضيفها، وتأخذه إلى حيث تشاء، وتطرق الأبواب المحظورة معه، والسبب بكل بساطة يعود إلى الإعداد المتقن والبعيد عن الارتجال، وإن وقع الارتجال نتيجة الحوار تتمكن منه بذكاء وكأنها جاهزة له، وهذا يأتي من المثابرة والشغل على الذات والثقافة وحبّ المهنة، وهذه الأخيرة ضرورية، أعني أنها لا تقدم فقراتها رفع عتب، وفي أكثر من مرة شعرنا بمرضها أو متعبة صحياً وهي تحاور ولم تفقد عزيمتها وشخصيتها في الأداء.

كما لا تلعب بثينة دور المحاور الشيطان، فهي مع المقاومة، وتعمل على خدمة هذه الفكرة التوجّه، لكنها واقعية تحاور ضيفها من باب الواقعية وما بعدها، هي ليست طرفاً بل لا تسمح بالاعتدال في القضايا المصيرية المتعلقة بالصراع مع الصهاينة. أما في ما عدا ذلك فهي كالبحر تحاور عبر الموج والشاطئ، تحرج الضيف بأدب ولطف حينما يغيّر ما باح به منذ برهة، تعيده إلى المسؤولية، فعدد من ساسة هذا البلد يعتبرون السياسة واجهة ونجومية، هي تخلط أوراقه وتعيده إلى صوابه، لا تجامل على حساب المادة التي تعدّها، ولا تكترث لعدم اتفاق الضيف معها بل تحاول أن تقنعه أو تقتنع بردوده بأدب لم نعد نعتاده في الحوار السياسي اللبناني. هي حاضرة دائماً بسرعة بديهة لماحة وذكية، لا تتعمد الضحك والدلال بحجة النجاح والانتشار، ولا تتبرج في حواراتها كي تكون أقل من ضيفها، وتمسح له الجوخ كي يعاود الحضور معها، ولا تفبرك القضايا كي تلفت النظر إليها. هي كما هي وعليك أن تتقبلها هكذا، والجميل ـ وبحسب معلوماتنا ـ أن غالبية السياسيين في لبنان يسعون إلى الحوار معها، وهذه قيمة للإذاعة بعد انقطاع وهج الإذاعة عن التواصل، فالكل يرغبون بإطلالاتهم الفضائية معتقدين أنها تحقق انتشاراً أكبر.

مع بثينة علّيق الصورة مختلفة، معها الوقت يمر بسرعة، وفيه الكثير من الاستفادة، نتعلم منها لعبة الحوار حتى لو كان المحاور لا ينسجم مع خطها السياسي فنجدها تخبره وتوصل إلينا إشاراتها أي أنها تحترم وجهة نظره مع أنها غير مقتنعة بها، وهنا تدخلنا إلى عالم التحليل فرضاً كي نجرب استخدام فكرنا بهدوء.

المذيعة والإعلامية بثينة علّيق نجمة إذاعية متوهّجة في زمن خفوت دور السمع لصالح البصر، وهذا يعني أن المذيع المتمكن يأتي بالنجومية أينما حلّ، لا بل بثينة قلبت المعادلة التي تقول إن النجومية احتلها التلفاز والإذاعة مات دورها… نجوميتها تعتمد على إنها غنية بما لديها، وواثقة بكل ما تقوله وما ستقوله، ومدركة أهمية دورها في أن تحاور من تتفق معه ومن لا تتفق معه، هي ليست مستمعة ساذجة تحرّك رأسها لضيفها مهما كبر شأنه… باختصار هي متمكنة لأنها تعدّ فقراتها ولديها مشروعها، وتتعب كي تثقف أدواتها، وهذه النواحي مفقودة اليوم عند غالبية الإعلاميين و مستسهلي الشهرة.

ذات يوم، أخبرني الغائب الحاضر، وامبراطور الإعلام العربي رياض شرارة أنه لا يظهر عبر الإعلام لمدة دقيقة إلا إذا أعدّ فقراته، لذلك لا يزال هو الأفضل، وبثينة من هذه المدرسة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى