ثروة أثرية عريقة في لوحات مدينة شهبا
لورا محمود
تروي قصة حضارة قديمة ما زالت تتجدّد حتى الآن، وما زال الكثير من أوابدها حاضراً إلى اليوم. تعتبر واحدة من المدن الرومانية الهامّة، ونموذجاً رائعاً للمدن التاريخية بكلّ مقوّماتها. معالمها الحضارية وآثارها تستحق الدخول إلى أضخم المتاحف العالمية لتكون الحجّة الدامغة للعالم أنّ أرضنا هي مهد الثقافة والحضارة. إنها مدينة «شهبا»، إحدى أهمّ المناطق الأثرية في محافظة السويداء السورية.
مدينة في محافظة السويداء جنوب سورية، تقع على بعد 85 كيلومتراً إلى الجنوب من مدينة دمشق. وهي مدينة جبلية تقع على إحدى تلال جبل العرب. وهناك عددٌ من الكهوف والمغاور والتشكيلات الطبيعية في محيط المدينة التي كانت موطناً ومسكناً للإنسان القديم. عام 333 قبل الميلاد وقعت شهبا تحت حكم الإمبراطورية اليونانية، ثمّ المقدونيين وكذلك البيزنطيين، ومن بعد ذلك العرب الأنباط والرومان، ولعبت دوراً هاماً في الحضارات كافة التي مرّت على المنطقة.
تعدّ مدينة شهبا مدينة عظيمة تنافس أعظم مدن الغرب، لا سيما روما. وهي من أشهر المدن الأثرية في سورية. سُمّيت «فيليبوبولس» نسبة إلى الإمبراطور الروماني فيليب العربي الذي حكم الإمبراطورية الرومانية.
شهدت شهبا ازدهاراً في عهد فيليب العربي، فقد أولاها عناية كاملة وشاد فيها عدداً من المباني الدينية والمدنية بين عامَي 244 و249 ميلادياً، وأهمها المسرح الذي يعدّ من النماذج الجميلة للمسارح الصغيرة، والمدفن، والمعبد الإمبراطوري، والحمّامات.
في بداية الستينات من القرن الماضي، وأثناء عمليات تنقيب عن الآثار، عثرت البعثة الأثرية على بناء أثريّ جنوب منطقة الحمّامات الإمبراطورية في المدينة. وأيضاً على مجموعة من المكتشفات الأثرية الهامة، ولوحات فسيفسائية من أجمل لوحات الفسيفساء على مستوى العالم، والتي تحكي الأساطير اليونانية القديمة التي قدّمها الرومان في منتصف القرن الثالث الميلادي، وما يزال عدد منها في حالة ممتازة. وللمحافظة على هذه اللوحات في مكانها الأصلي، قرّرت المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية عام 1962، بناء المتحف في المكان نفسه، وقامت بترميم المكان وتجهيزه، الذي أصبح متحف شهبا، والذي يضمّ الكثير من الآثار والأوابد التاريخية.
يقول الباحثون إن فيليب العربي أولى اهتماماً كبيراً للجانبين الروحي والأخلاقي في حكمه. لذا، تدلّ لوحات عدّة على الفضائل الإنسانية انطلاقاً من مبدأ المدينة الفاضلة التي تحدّث عنها أفلاطون نتيجة تأثر فيليب بأفكار الفلاسفة اليونان الذين سبقوه في هذا الجانب ومبادئهم.
والأساطير الموجودة ضمن اللوحات تدعو إلى إصلاح النفس البشرية وتهذيبها كما في لوحة «أفروديت وأريس» التي تبيّن أن الجمال يتحوّل إلى وباء إذا فقد صاحبه الفضيلة والحكمة والعدالة. وكذلك إلى تعويد الإنسان على الصدق والابتعاد عن الفواحش التي تكون عاقبتها مأساة للفرد والجماعة.
أما اللوحات الفسيفسائية الأخرى، فتمثّل كلّ لوحة أسطورة يونانية. من هذه اللوحات، لوحة فسيفساء «أعراس أو افراح أريان وبونيزوس»، ويمكن تسميتها لوحة «الفصول الأربعة»، وتمثّل الآلهة جالسة على العرش وحولها هالة الألوهية أو القداسة، وتوضح الإلهة أريان وهي تتزيّن بالحلى الكثيرة. إطار اللوحة مزيّن بالرسوم النباتية ومشاهد الصيد وموسم قطاف العنب. ومن الروعة كذلك زوايا اللوحة تمثّل الفصول الأربعة: الشتاء والربيع والصيف والخريف. أما اللوحة الثانية، لوحة «أورفي» أو لوحة «الموسيقار»، فهي تمثّل أورفي يعزف الموسيقى وهو جالس وتحيط به الحيوانات التي تنجذب إليه. ويتّضح من ملابس أورفي أنه يلبس الزيّ السوري الشرقي، ويمسك بين يديه قيثارة. تفاصيل اللوحة أكثر من رائعة، إذ تبيّن مجموعة كبيرة من الحيوانات: الطاووس، النمر، النسر، الفهد، العصفور.
أما اللوحة الثالثة، لوحة «أفروديت وأوريس» إلهة الجمال، فتمثل اللوحة نساءً، وآلهة الحبّ، والتنافس على كسب أسلحة الإلهة أوريس. واللوحة مزيّنة بالنقوش والزخارف وجماليات كثيرة تبيّن الأسطورة.
اللوحة الرابعة تمثّل ربة البحر «تيتس»، وهي حورية «بوسايدون» إله البحر عند الإغريق. ونرى خلالها أنّ الآلهة تتوسّط اللوحة التي تمثّل البحر للدلالة على معرفتها بعالم البحار. وتتزين أو تزيّن شعرها بأسماك البحر للإشارة إلى خيرات البحار وكائناتها الحية، وعلى جبهتها نجمة البحر تزيّنها لإظهار كنوز البحر وجماله. ولا بدّ من الإشارة إلى وجود حيوان بحريّ أسطوريّ مخيف يلتفّ على عنقها يسمى «الدراكون»، له رأس كلب ويرمز إلى أعماق البحار لإبراز مخاطرها ومخاوفها. فيما يشاهَد على إطارها تسعة ملائكة صغار ويطلق عليهم اسم «كيوبيد»، حيث يمتطون المراكب والدلافين ويسيرون في عرض البحر بأمر من «تيتس». وكذلك نرى العامة من الناس يركبون البواخر في إشارة إلى استخدام البحر للنقل وللسفر.
أما اللوحة الأخيرة، فنُقلت إلى متحف السويداء لكنّها بالأصل تعود إلى فسيفساء شهبا وأساطيرها الروحية. وتمثل أرتيميس إلهة الصيد عند الإغريق. وتروي مشهداً إنسانياً أخلاقياً يتحدّث عن طبيعة الإنسان في الكون واستمراره في الحياة. إذ كانت أرتيميس عذراء مثل وصيفاتها، تغضب على من يراها من الرجال خلسة فتحوّله إلى امرأة إن أشفقت عليه، وإلا فتحوّله إلى حيوان.
وتبدو أرتيميس في اللوحة تستحمّ مع وصيفاتها في نبع ماء صاف عذب يقع في مغارة محاطة بالحوريات، حيث يفاجئها الصياد أكتيون بأن أطلّ عليها فوقع في الخطأ والتطفّل وعدم الحذر الذي لا يليق به. فغضبت عليه وحوّلته إلى أيل افترسته كلاب الصيد المرافقة له وعددها خمسون، حيث يرمز هذا العدد في الأسطورة إلى الأيام التي تتوقف فيها عصارة النبات عن النمو خلال السنة.
وفي إطار اللوحة أشكال هندسية ونباتية وبشرية تتعاقب كشريط دائم تتبدّل فيه ألوان الرؤوس البشرية التي تزيّنها، وهذا دليل استمرار الحياة البشرية بلا انقطاع. إضافة إلى أوراق ونباتات خضراء وفاكهة متواصلة مع تواصل البشر من قبل إله الخضرة أتيس، وبعض القبّعات فوق الرؤوس التي ترمز إلى الحرّية في روما، وبعض الطيور المقدّسة في زمن الرومان تحطّ على الحزم النباتية لإطار اللوحة طيور الحسون والحجل والبط والطاووس.