«تغريبة حارس المخيّم» لسعيد الشيخ… غربة أخرى في حياة الفلسطينيّ
ستوكهولم ـ سمر الصالح
في رواية «تغريبة حارس المخيّم» الصادرة حديثاً للكاتب الفلسطيني سعيد الشيخ عن «منشورات ألوان عربية» في السويد، كلّ الطرق تؤدّي إلى السرد بحرفية الكتابة الدرامية مهما اقترب النصّ من التوثيق واتّكأ على مفاصل تاريخية حفرت آثاراً فجائعية في الحياة الفلسطينية. وتعدّ هذه الرواية العمل الروائي الأول لسعيد الشيخ بعد كتب عدّة أصدرها في مسيرته الأدبية توزّعت بين الشعر والقصة القصيرة.
هي غربة أخرى، كما يقول الشاعر محمود درويش في إحدى قصائده، يستحضرها سعيد الشيخ في كتابة هي مزيج من الواقع والخيال ضمّتها أربعة فصول متلازمة بين السردي والتاريخي، وإن بدأ هذا التاريخ من عند مجزرة «صبرا وشاتيلا»، فهي لن تنتهي إلا عند النهايات العميقة. عند يوم القيامة الذي يشهده «يوسف سعد الدين» بطل الرواية وزوجته «أمينة» وهما في زيارة لربوع الوطن المغتصب. حيث يشهدا بأمّ أعينهما كيف دولة الاحتلال تتفسّخ بتدخّل من السماء. ولكن وحتى ذلك التاريخ الذي يبقيه الكاتب غامضاً ومتأرجحاً بحدوثه أو باحتمالية حدوثه، فإن الرواية تحفل بالشقاء الفلسطيني وتحدّيات الوجود. وذلك تبعاً لقاعدة لا يشذّ عنها إلا القلائل من كتّاب الرواية، وهي أنّ المنجز الروائي لكي يظلّ حاراً ومؤثراً وجذاباً يجب أن يكون توأم الملحمة لا ينفك عن الهمّ الإنساني وخصوصاً الفجائعي لأنه أكثر رسوخاً في الذاكرة الجمعية.
الفصل الأول: المجزرة… نياماً جاءتنا الفؤوس
وكأن الرواية هي حياة ثانية لأبطال تخطّاهم الموت وأيّ حياة؟ «يوسف سعد الدين» وزوجته «أمينة» وابنهما «عمر»، و«زهرة» التي ستصبح ابنتهما بالتبنّي بعدما انتشلتها «أمينة» من فم الموت وهي على صدر زوجة أخيها المقتولة. هؤلاء جميعاً كُتِب مصيرهم على غير مصير الآلاف من أهل المخيّميْن الذين حصدت المجزرة أرواحهم. وليس المهمّ هنا إن جاء بهم الكاتب من الواقع أو أوجدهم من خياله. المهم في السرد هو الضوء الذي سيُسلّط على حياتهم بعد المجزرة لتصبح الكتابة بمجملها كتابة درامية مكثّفة تحمل دلالات عن أهوال لا تنفكّ عن السيرة الفلسطينية. وعلى رغم أن مجزرة «صبرا وشاتيلا» صارت في ذمة التاريخ وتناولها التوثيق من جوانبها كافة، إلّا أنّ السرد الروائي في هذا الفصل يجعل القارئ يمسك أنفاسه وهو يتابع تحرّك بطل الرواية بين الجثث الملقاة في الأزقّة الضيقة.
يغوص الكاتب في أدقّ التفاصيل وإلى أعماق الكائن الإنساني المفجوع وهو أمام الهزيمة والخسارة، ويصف ما غفل عنه التوثيق كشرط أساسيّ يقوم عليه العمل الروائي بارتباطه بالهمّ الإنساني: «لا لوعة في هذا الكون تضاهي لوعة امرئ بأمّه وأبيه وهما يُذبحان مع إخوته أمام نظره، وهو لا يدري أيضاً في أيّ لحظة يأتي عليه الدور. لا أستطيع أن أصف كيف هو الشعور، أحتاج إلى كلّ لغات الأرض وقد لا تفي في وصف شعور فقدان الوالدَيْن والإخوة بضربة واحدة وبظروف غير طبيعية. لا أتخيّل جحيماً فوق هذا الكوكب يماثل هذا الجحيم». ص 15 ، وجحيم البطل الذي تمنّى الموت بين من ماتوا يجد له الكاتب مبرّراً لنجاته التي تسعد الأموات في ألّا يندثروا وتندثر قضيتهم مع مواراتهم في المقابر الجماعية. «كم مقبرة جماعية أيّها الجسد، يا جسد الفلسطيني المقطّع… شريداً تمضي في الحياة واللحد لا يلمّ مماتك كما هيّأك الخالق، كأنك مختبر للوحشية، مسيح العصر من سلالة النور منذوراً للشقاء والآلام، تحمل على ظهرك وطنك وتجوب الكوكب». ص 30
لا يغلق الكاتب هذا الفصل إلا مع حضور بعثة أممية إلى مسرح المذبحة، جاءت تبحث عن ناجين لإخراجهم من الجحيم ولتخفيف الآلام والمخاطر التي ما زالت تحوطهم. فيهاجر بطل الرواية غير مقتنع مع عائلته الصغيرة إلى السويد، ويجسّد الشيخ ذلك بمشهد مؤثّر في حوار وجدانيّ يدور بين البطل وطيف جدّه الذي مات في فلسطين أيام النكبة. وكأنه كُتِب على الفلسطينيّ ألا يغادر موته وحصاره إلّا عميقاً في الشتات حاملاً وطنه على ظهره.
الفصل الثاني: أيّها الثلج، كيف الشقاء في بياضك؟
في هذا الفصل يقترب السرد من الكتابة التسجيلية بعدما تخفت أصوات الدراما التي رافقت فصل المجزرة، إذ يسجّل الكاتب هنا بدايات نشوء الوجود العربيّ في السويد خلال ثمانينات القرن الماضي. الحفاوة السويدية تجعل بطل الرواية مع زوجته يشعران بأنهما قد انتقلا إلى عالم مختلف عن العالم الذي غادروه. كانا يحتاجان إلى كثير من الوقت ليفهما البَوْن الشاسع ما بين أدوات المجزرة التي عبثت بجسديهما وروحيهما وبين الأدوات الطبية بأيدي الأطبّاء السويديين التي راحت ترمّم روحيهما من ندوب المجزرة. وليقرّرا أن الإنسانية لم تغادر الكوكب بعد. «بشاشة الأطبّاء والممرّضات لمساتهم الحانية، وحدها كانت بالنسبة إلينا بلسم يردّ لأرواحنا إنسانيتها التي طُحنت في المجزرة، ما جعل أمينة تقول بعدما عدنا إلى الشقة: أُنظُر كيف يهتمّون بنا. وتبكي». ص 68 .
أحداث كثيرة يشهدها هذا الفصل، وذلك نظراً إلى مرور سنوات عدّة على وجود العائلة في منفاهم السويديّ. وكان على العائلة أن تواجه تحدّيات كثيرة في الصقيع السويديّ إن بدأت من الاختلاف الثقافيّ فإنها لن تنتهي عند سؤال الهوية وسؤال الوجود برمّته. «هل من وجود طبيعيّ خارج وطن الأجداد؟ وهل من وطن طبيعيّ خارج اللغة؟»، ص 124 . كانت العائلة وكلّما انخرطت أكثر في المجتمع السويديّ تشعر أن شيئاً ينقص من ذاتها، حتى عندما حصلت العائلة على الجنسية السويدية في وقت كانت السلطة الفلسطينية تبني مؤسّساتها على أجزاء من الوطن المغتصب بحسب «اتفاقيات أوسلو» التي غبنت الحقوق الفلسطينية بحسب بطل الرواية، ما جعله يشعر بالقلق على مكوّنه وكينونته ويطلق سؤاله الذي يشبه الصرخة في ليل الشتات: «هل يصير سياج الوطن أعلى من سياج الاحتلال؟ وهل تصير هذه السلطة الناشئة مقبرة تضمّ رفات أحلام الفلسطينيّ بالحرّية وتقرير المصير؟». ص 124 .
يصير الشقاء في حياة العائلة هنا مضاعفاً، فندوب المجزرة لا تمّحي سريعاً، وشروط الاندماج التي تضعها الحكومة السويدية لا تتوفّر لدى أفراد ما زالت ذاكرتهم تحمل أهوال الاقتلاع وأهوال الحروب التي لاحقتهم إلى المخيّم، وفي أعماقهم يشعرون أنّ المخيّم ما زال يشكّل شخصيتهم وهويتهم. والقول هنا لبطل الرواية الذي يروي الكاتب على لسانه : «ما معنى أن أكون هنا وسط هذه القيمة الإنسانية التي يمنحني إياها القانون السويديّ، وجذوري هناك تجتثّ وترسل إلى المحرقة كي تتمّ الإبادة التي رُسمت لنا منذ قرن من الزمن؟». ص 124 .
تكبر التحدّيات مع مرور السنين، ومع تكاثر عدد أفراد العائلة ودخول الوالدين سنّ الشيخوخة وفقدانهما السيطرة على بعض الأبناء ممّن ولدوا في السويد. وكأنّ ما أنتج في السويد هو للسويد. حيث يثير الكاتب هنا خلاصة مفادها أنّ الحماية الدولية للاجئين هي مصلحة للمجتمعات التي تحتضنهم. وهذا ما يحدث تماماً في وقتنا الراهن مع لاجئين آخرين.
الفصل الثالث: الهاوية… حين اشتعال النيران في الثياب!
«منى» و«بلال» هما ابنا «يوسف» و«أمينة» اللذان وُلِدا في السويد، وهما أيضاً ابنا الواقع الذي فرض نفسه بقوّة وترك تأثيراً على السلوك والطباع.
«منى» تبدو واثقة من خياراتها وهي بذلك على عكس «بلال» الذي يبدو متردّداً وتائهاً. وهي ذكية فوق العادة متفوّقة في دروسها وناجحة في علاقاتها الاجتماعية. بنَت شخصيتها على النمط السويديّ على رغم كلّ الحنوّ، والاحتضان العائلي الذي حاول أن يزرع فيها العادات والتقاليد الشرقية. وهذا لم يمنعها من التصرّف تجاه أبيها كما تتصرّف أيّ فتاة سويدية حين يقع الخلاف. «هل هذه ابنتي؟ كيف تكون ابنتي وهي انكسار ظهري وانكسار عنفواني؟ ترسلني وأنا في الستين من العمر إلى السجن بتهمة إساءة معاملتها؟». ص 188 . وقاع الهاوية يتجسّد حين تترك «منى» منزل ذويها لتصبح حرّة من كلّ ماضيها وفي كنف المجتمع السويدي الذي يشدّ من أزرها.
تتوالى الضربات في حياة العائلة، وتأتي الضربة الثانية من آخر العنقود «بلال». فبعدما عاش تائهاً بين الثقافتين العربية والسويدية ومراهقة متهتّكة، فجأة يهتدي إلى طريق المصلّيات في المدينة، وهناك تتلقّفه «الذئاب» وترسله إلى سورية للقتال إلى جانب «داعش». «ابنك بلال سعد الدين خرج من السويد إلى بريطانيا، ومن هناك سافر مع آخرين الى تركيا ولكن وجْهتهم الأخيرة كانت سورية للالتحاق بمجموعات الجهاديين»… ص 208 . هكذا يتلقّى «يوسف» الخبر من جهاز الاستخبارات السويديّ لتغيم الدنيا في وجهه وتنهار «أمينة» مغمياً عليها في البيت. ثمّ تتوالى الأيّام عليهما وهما يتشاركان في الأمراض منها الحقيقيّ ومنها الوهميّ. كان الانكسار في الروح مهيمناً على الشعور.
كان لبطل الرواية رأي آخر في «الربيع العربي» وقد سجّله في مناجاة طويلة مع نفسه حين علم بوجهة ابنه: «يا ولدي هذه نصرة باطلة، وداعشية متوحّشة كاذبة. النصرة الحقيقية لا تكون إلا للقدس المغتصَبة، وفلسطين هي أوّل الحرّية وهي يقين الكرامة العربية، فلا كرامة ولا حرّية لعربيّ من دون تحرير فلسطين». ص 208 .
الفصل الرابع: انتفاضة الأطياف… حين مشينا إلى الشعاع
«ها هو الوطن يا يوسف، إلى الشرق تنام طفولتك المسفوحة في صفورية الممحوّة، ومنذ الآن عليك أن تكتشف تغييرات روحك لتكتشف ماهيّة الوطن». ص 218 .
كان «يوسف» يدري حينما اصطحب زوجته «أمينة» التي باتت تعاني من داء المفاصل في زيارة للوطن المغتصب، أنه يرمّم الروح من حرائق المجزرة ومن انكساراتها المتراكمة في الشتات. كان يريد للظهر المنحني أن يستقيم بإسناده إلى أشجار الطفولة في قريته التي محاها الاحتلال. ولينال شيئاً من الغبطة بلقاء أبناء عمومه الباقين في البلاد وليغادره الشعور الذي رافقه طوال عمره بأنه مقطوع من شجرة.
في مكان القرية لم يُبقِ الاحتلال إلا قلعة من الزمن البيزنطيّ ومقبرة «الأشراف» التي تحضن رفات أهل البلد، يصادف في يوم زيارة أطلال القرية أن تزحف «بلدوزورات» الاحتلال إلى داخل المقبرة لإزالة قبورها في عملية بحث عن الآثار. «فجأة، هبطت على المكان غيمة سوداء كست الأجواء بظلمة دامسة، حتى ما عدنا نرى شيئاً»… «عند انقشاع الظلمة، انكشف لنا المكان عن بياض يغمر كلّ الوجود حولنا، كنّا نحتاج إلى بعض الوقت لنستردّ حاسّة البصر. أخيراً استطعنا رؤية الجرّافات وقد تحوّلت إلى حطام وخردة مرمية». ص 261 .
هنا، يجعل الكاتب الحكاية تتأرجح بين الواقعيّ والتخيّلي، ويجعل المكان يتّحد في الزمان. بين الحدث واحتمالية حدوثه فاسحاً للغرائب السحرية لأن تفرض نفسها على مشهدية السرد. «يأخدنا البياض فننزل من شرفة القلعة ونجد نفسينا وسطه، يلفّنا ونصير جزءاً منه. أمينة لا تفلت ذراعي، وقد بدأنا نشعر أننا نمشي بين أطياف قامت للتوّ من موتها لتدافع عن تربتها وقبورها». ص 261 .
بتقنيّات سينمائية خالصة، وتبعاً للنهايات التقليدية في انتصار الخير على الشرّ، يطلق سعيد الشيخ نبوءته في زوال الاحتلال المتمثل في الشرّ والكراهية. «ثمّة ملائكة في السماء ترسل فيروساً إلكترونياً يخترق آلة القتل وينزل بها فتكاً. ثمّة عقاب تنزله محاكم السماء على قوم تجبّروا وسفحوا دماء الآخرين». ص 263 .
خاتمة
إنّ مجيء سعيد الشيخ من عالم القصيدة والقصّة القصيرة، لم يجعله مرتبكاً وهو يدخل إلى عالم الرواية، ويبدو في روايته الأولى متمرّساً وعلى معرفة تامة بالأمكنة التي يقصدها، ذا دراية في تفكيك محنة شخصياته التي يأتي بها لتكون معبّرة ربما عن آرائه وأفكاره. وهو يكتب بدمع العين حيث لا يُخفى انحيازه الواضح إلى أبطاله بأقصى الحدود.
«تغريبة حارس المخيّم»، رواية مميّزة، لا يمكن إغفالها عند الحديث عن المنجز الروائيّ الفلسطينيّ. وبهذا المعنى، هي تحتاج إلى المزيد من الدارسة والتقييم.