«يشتدّ بي الأزرق»… حين تُنتشَل القصيدة من فخّ انتظارها المقيت!
النمسا ـ طلال مرتضى
«لو كان للوقت رائحة
لصنعتُ من انتظارك عطري!
تلملم أشتات الهواء، تلك غواية الكلام حين ينفرط كعقد ماسيّ دوّح الورق الظمأ لسطوة الحبر، لترتمي في نداوة القصيدة الغارقة في مرمى اللغة المتّقدة من قلم وزيت. الشاعرة صبا قاسم تفتح فرجار الشعر على مصراعيه، تنتشل القصيدة من فخّ انتظارها المقيت لتُوقع متلقّيها الرهيف في شبهة النص:
إنّي في شتاء من أمري
إنّي في شهقة من يُسراك
مدّ لي الأخضر
كي أستطيل بقليلي
إلى كثيرك.
«يشتدّ بي الأزرق»، المجموعة النثيرة وباكورة أعمال الشاعرة السورية صبا قاسم، الصادرة عن «دار أرواد للطباعة والنشر والتوزيع»، تضمنت نوعين مما نطلق عليه المنثور، وهو ما ترك متّسعاً رحباً للشاعرة وهي تقفز كفراشة شرهة الزهور، ما بين القصيدة التي اعتدناه وفي ما يطلق عليه «هايكو» الذي تجلّى على شكل رسائل وجدية تحمل في جوّانيتها عبث الشوق المفتعل إلى نصفها الآخر تارة:
عندما يبزغ فجرك
في صباحاتي
أحتسي تقاطيع وجهك
مع سكّر ما تبقّى
من زيارتك الأخيرة لأحلامي.
وتارة أخرى عندما تنزاح كأسيرة لعصف الكنايات التي وسمت بها قصائدها الطويلة واستحضارها للمقولة ـ الأسطورة ـ ليتجلّى نصّها حوارياً وافر الصوَر متجاوراً كسر النمط لتبيان دلالاته:
كلّما لاح موجه عن وَلَهٍ
اشتدّ بي الأزرقُ
لأُطبِق شفاهَ الجنون
على عتبة سمائه:
عم بحراً أيّها المعنى
عم سماءً أيها الضياء.
وفي مقام آخر، عملت الشاعرة على مماهات صوتها لتأخذ مجداف القول نحو أقصية وفلوات، وحدها من يقرّر رسمها، عبر الولوج إلى عمق متلقّيها. ما فتح أمامها نوافذ التخيّل، التي زادت من انسكاب الرؤى، والتحوّل من الكتابة المفترضة إلى حالة حراك ذهنيّ متواتر، ولّد صوَراً تخيّلية تحمل طابع الفرادة، ما بين غموض المعاني، والاستعارات القريبة:
اسمح لي أن أفضّ ذكورة العمر
فوق بياض الانتظار الأوّل
أن أؤدّي صلاة الغائب
على أضرحة القصص المنتشرة
على طول خطّ حياتنا
على كأس ضلّ قدسيّته
وتقطعّت به الأنخاب
ليحطّ سُكْره هنا
فيَّ
ها هو مجد أوفيد
تحاكيه قيثارة الخلود
ها هو يعيد صوغ روما
وها هو لوركا يغنّي القمر الإسبانيّ
بالكثير من أعراس الدم
وأنت المسكون بملامح غوته وروح فاوست
ما زالت ثمارك الخريفية فوق الـ«هُنا» الممكنة.
استنباطاً، بقيت قصائد الشاعرة قاسم تحت تأثير صوتها الأوحد، لتكون ضمير المتكلّم الحاضر:
أنثى بحجم الماء
ثقيلة ذاكرتها في ميزان الفرح
خفيفة
خفيفة بوزن
الحبّ
ثمّة أنا.
وفي الغائب:
أما حلمي الكبير
إن لم تتّسع له الحقيبة
فانفخ فيه من روح هرمك الكبير.
ثمّة روح متمرّدة تغفو طيّ صدرها كبركان خامد، وارت الشاعرة ملامحه النازفات بشجيّ القول لتصل إلى مبتغاها:
أصابعك مبصرة وجسدي ضرير
أصابعك انفجار وجسدي قبلة موقوتة
أصابعك النار
ضجيجك يعربدُ من زمنِ «أعطني حرّيتي» لا يأسره إلّا إطلاق يديه.
الشاعر عيسى الشيخ حسن يسأل: أليس بعض ما في النصّ يكفي، كي نقيم بلاغة مجنونة فوق السطور؟
تلملم صبا قاسم قصائدها المتمادية في الشروحات، تطوي صوتها المبحوح كعزف ناي دامع، حين احتضار قصيدة موزونة:
رهينةَ الماء
كانت
ومن بين الأصابع
تسيل كالحياة
ومضةٌ على طرف العين.