تقرير
كتبت صحيفة «كريستيان سيانس مونيتور» الأميركية: يجد السوريون أنّ مغادرة الرقة تزداد صعوبة باطّراد، لكنّ الضربات الجوّية وارتفاع معدّلات التضخّم، يجعلان الحياة هناك لا تطاق. حتى أنّ أولئك الذين يصطّفون مع الجهاديين يجدون أنفسهم راغبين في الفرار.
تركّز الخطبة الهادرة على ما يقول المقيمون في الرقة، عاصمة «خلافة داعش» المعلنة ذاتياً في سورية، أنه موضوع متكرّر في صلاة الجمعة: «الهجرة».
قال الواعظ: «ألا تعرفون المخاطر التي تحمّلها مجاهدونا والثمن الذي دفعوه لكي يأتوا إلى هنا، إلى قلب الخلافة؟ وأنتم؟ أنتم تريدون الذهاب إلى أرض الكفّار»، وفقاً لما رواه ستة أشقاء سوريون فرّوا من الرقة في كانون الثاني الماضي.
كانت تلك الخطبة هي الأخيرة التي سمعوها، كما يقول الأشقاء الذين شقّوا طريقهم إلى تركيا بمساعدة سلسلة معقّدة من المهرّبين.
ويقول الشقيق الأكبر، «حمزة»: يلتقط «داعش» الثرثرات في الشارع، وبذلك يعرف عناصره أنّ الناس يريدون مغادرة «أرض الإسلام» إلى «أرض الكفار».
في الفترة الأخيرة، تصبح مغادرة الرقة صعبة ومكلفة على نحو متزايد، ولكن عدداً من السوريين ما زالوا يقومون بالرحلة الصعبة إلى تركيا. وقد تعبوا من المراسيم القاسية التي يصدرها الجهاديون، لكنهم تعبوا أيضاً من ارتفاع الأسعار ومن العيش تحت القصف المستمر، على نحو جعل الحياة صعبة حتى على أولئك الذين يفضّلون حكم «داعش» على حكم الرئيس السوري بشار الأسد.
يقول حمزة، وهو عامل بناء سابق يبلغ من العمر 28 سنة ويعمل الآن خيّاطاً في ضواحي اسطنبول: بالطبع يعرفون الجهاديون أن الناس يغادرون مناطق «داعش». إنهم يملؤون جيوبهم بالعمولات من المهرّبين.
لكن قيس، شقيقه الذي ما زال يحتفظ بلحية كثّة مطابقة للطراز الذي تفرضه الجماعة الإرهابية، يتدخّل في الحديث، غاضباً من تلميح شقيقه إلى فساد «داعش».
ويقول متجهّماً: ما دمتَ تحترم حدودهم، فإن وجودهم أفضل من البديل، أفضل بالتأكيد من النظام. معظم أعضاء «داعش» لا يجرؤون على السرقة أو أخذ الرشوة، إذا لم يكن خوفاً من الله، فخوفاً من قادتهم.
يعرض الأشقاء ـ الذين طلبوا استخدام أسماء مستعارة حفاظاً على سلامتهم ـ طيف وجهات النظر المتفارقة عندما يتعلق الأمر بـ«داعش». ويبدو أن حمزة هو الأكثر انتقاداً للمجموعة. ويقول عدنان إنه بدأ يكرههم بعدما شهر مقاتل جهادي أجنبي مسدّساً في وجهه حتى يتجاوزه في طابور قصير ـ إلى حدّ يبعث الضحك ـ في أحد المخابز.
ومثل محاسب دقيق، يزن عامر الإيجابيات المتصوّرة لـ«داعش»، والتي تتضمّن إغلاق بيوت الدعارة وإعادة فرض الزيّ الإسلامي والصلاة، في مقابل كل السلبيات. وما يزال الشقيقان الأصغران، قيس وعمر، ينظران إلى «داعش» بعين التفضيل.
لكنهم جميعاً يتفقون على أن الحياة في الرقة كانت قاسية بطريقة لا يمكن الدفاع عنها. وفي النهاية، كما يقولون، دفعهم التضخم وانعدام فرص العمل، إلى المغادرة. ويقول عامر: عندما جاء «داعش» أوّل الأمر، كان 70 في المئة من السكان سعيدين، و30 في المئة غير سعيدين. الآن أصبح الوضع معكوساً بسبب الضغوط الهائلة التي يضعونها على السكان.
يضيف عامر: في البداية كان الجميع يستطيعون الذهاب إلى أيّ مكان، حتى النساء ما دام معهن مرافق ذكر. واليوم، ليس مسموحاً حتى للرجال بمغادرة مناطق «داعش» إلا تحت ظروف خاصة جداً، مثل السعي للحصول على العلاج الطبّي.
ويقول الأشقاء إنهم ظلوا في الرقة مثلما فعلوا، فيما يعود في جزء كبير إلى أن والدهم كان مريضاً مصاباً بسرطان الغدد اللمفاوية، وكان يريد أن يموت في وطنه، وهو ما حدث كانون الأول. وقد تلقى العلاج في المناطق التي يسيطر عليها النظام. لكن مدخّراتهم جفّت في نهاية المطاف مع الذهاب والإياب، إلى جانب الرعاية الطبية لقيس بعدما تعرّض لحادث سيارة خطير. ثم أنفقوا نقودهم الأخيرة على المهرّبين، وهم يحاولون الآن أن يعلموا ليدّخروا ما يكفي لقطع الرحلة إلى أوروبا، ولو أن ذلك سيعني أن يصبحوا أبعد عن أمّهم وعن شقيق آخر قرّر البقاء في الرقة.
لكن شقيقتهم، حنان، هي الأكثر سعادة بوجودها في تركيا. فقد جلب عليها فشلها في مراعاة الزيّ المناسب في الرقة دفع غرامة قدرها 4000 ليرة سورية، وكذلك 30 جلدة للشقيق الذي جاء ليأخذها. والآن، أصبح الذهاب إلى السوق لشراء الفواكه والخضراوات مدعاة للبهجة مرّة أخرى، وكذلك الوصول إلى الإنترنت، ومشاهدة القنوات الفضائية.
وتقول حنان وهي مسترخية في البيت في منامة تشبه فروة الفهد: كامرأة محجبة بالكامل في الرقة، لا يمكنكِ حتى أن تري إلى أين أنت ذاهبة. «داعش» سيعاقبك على أيّ شيء.
تقول العائلة إن أسعار الفواكه والخضراوات في مناطق «داعش» شهدت زيادة بنسبة خمسة أضعاف، لأن الأسعار مربوطة بالدولار، ولأن «داعش» يصرّ على أن تُدفع بعض الغرامات بالذهب. وعندما غادروا، كان غالون غاز الطهي يباع لأعضاء «داعش» بـ1100 ليرة سورية، أو 3 دولارات، في حين أن السوريين كانوا يدفعون ما لا يقلّ عن ستة أضعاف هذا السعر في السوق السوداء.
مع نهاية شهر كانون الثاني، أصبح سعر الليتر الواحد من البنزين 650 ليرة سورية. وتكاليف وقود الديزل 150 ليرة لليتر الواحد، في حين وصل ثمن الغالون من غاز الطهي إلى 10.000 ليرة سورية، وفقاً لأحد السكان الذي لا يزال يعيش هناك.
أصبحت مغادرة الرقة أيضاً باهظة التكاليف. ففي السابق، كانت كلفة الرحلة إلى تركيا نحو 15.000 ليرة سورية، بما في ذلك أجرة المهرّب عبر الحدود. والآن، ربما يكون ما لا يقل عن ستة مهرّبين مشاركين في الرحلة من مناطق «داعش» إلى المناطق السورية التي يسيطر عليها الثوار العرب أو الأكراد، ثم منها إلى تركيا.
في حالة الأشقاء، وصلت كلفة الرحلة إلى 125.000 ليرة سورية للشخص الواحد 325 دولاراً أو ما يعادل مجموع أجور ثلاثة أشهر على الأقل من العمل في البناء.
حتى تصل إلى تركيا، رحلت الأسرة أولاً إلى منبج، وهي بلدة يسيطر عليها «داعش» في محافظة حلب الشمالية، واختبأوا في حظيرة للدجاج حتى صباح اليوم التالي، ثم ساروا نحو سبعة كيلومترات إلى أقرب نقاط التفتيش التي يسيطر عليها «الثوار» التابعون لـ«المعارضة من الجيش السوري الحرّ».
يشرح عدنان عن رحلة الهروب: الشخص الأول في سلسلة التهريب لا يعرف الأخير. في كل مرحلة، يكون المهرّب شخصاً محلياً، والذي ينصحك بما تقوله عن وجهتك عند نقاط التفتيش حتى تبدو صادقاً».
وبالنسبة إلى آخرين، ربما تمتدّ الرحلة لفترة أطول. ففي حالة عائلة أبو زهرة، المواطنين من قرية صغيرة في محافظة الرقة، استغرقت الرحلة إلى تركيا 16 يوماً. ويقول أبو زهرة إنه قرّر مغادرة المناطق التي يسيطر عليها «داعش» لأن اثنين من المسلّحين وضعوا عيونهما على ابنتيه بعمرَي 20 و18 سنة، ولأنه خشي من تجنيد ابنه إجبارياً للقتال مع التنظيم التي انضمّ البعض من أقاربه إليه مسبقاً.
ويتذكر أبو زهرة: عندما رزق ابن عمي بابن في الرقة، ابتهج مقاتلو «داعش» لأنه أصبح لديهم «مجاهد» جديد. الشعب السوري هناك عالق بين نارين: النظام و«داعش». إذا سقط نظام بشار الأسد، أنا واثق أن الناس سيملكون الشجاعة لطردهم.
لكن حمزة وأشقاءه يستبعدون هذا السيناريو ببساطة. ربما كان سقوط مدينة الرمادي التي كان «داعش» يسيطر عليها في العراق، مصحوباً باقتراب الفصائل الكردية من عاصمة ما تدعى «الخلافة»، قد رفعا الآمال بأن تحرير الرقة أمر ممكن، ولكن الناس هناك مرعوبون جدّاً ومقموعون جداً بحيث لا يقوون على الثورة. ويقول عدنان: إذا استمرت الأوضاع في التفاقم، فإن هناك فرصة ضئيلة بأن يثور الناس، لكنها تظل فرصة صغيرة حقاً لأن الجميع مرتعبون. كل مَن يقف ضدهم هو كافر. وبالنسبة إلى «داعش»، يكون قطع رأس أيّ أحد سهلاً مثل قول «مرحباً».