صحافة عبريّة

كتب شاؤول مشعال ودورون موتسا في صحيفة «هاآرتس» العبرية:

انتفاضة السكاكين الفلسطينية التي بدأت في تشرين الأول 2015 وضعت حدّاً لفترة متواصلة من الهدوء الأمني. في الأشهر تشرين الأول حتى كانون الأول قتل 31 يهودياً وأكثر من 120 من الفلسطينيين. وفي تشرين الثاني ازدادت عمليات إطلاق النار إلى جانب عمليات الطعن والدهس. ورغم استمرار العنف فإن «إسرائيل» تمتنع عن اعتباره انتفاضة. ومصدر رفض «إسرائيل» اعتبار أحداث الأشهر الأخيرة انتفاضة عنيفة، القناعة أو الرغبة في إعادة الاستقرار.

هناك نوعان من الادّعاءات حول الأسباب التي أدّت إلى موجة العنف الحالية وما هو مطلوب لإعادة الوضع لسابق عهده. النوع الأول ينسب التدهور إلى التحريض المنظّم من قبل السلطة الفلسطينية الذي انضمّت إليه أيضاً «الحركة الإسلامية» في «إسرائيل» والتي استغلت مسألة الأماكن المقدسة في القدس من أجل تأجيج السكان.

إن مواجهة الظاهرة تستوجب بحسب هذا الادّعاء علاجاً موضعياً للجهات السياسية المسؤولة عن الواقع الحالي، الأمر الذي أدّى إلى إخراج «الحركة الإسلامية» خارج القانون.

النوع الثاني يلقي المسؤولية بالتدهور على الجمود السياسي وغياب الحوار بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية. بحسب ادّعاءات كهذه، فإن غياب العملية السياسية هو المسؤول عن ضياع الأمل بمستقبل أفضل، والخروج من دائرة العنف يكمن في استئناف المفاوضات السياسية.

صحيح أن التحريض من قبل السلطة الفلسطينية ساهم في خلق أجواء العنف، الأمر الذي يشجّع شباناً فلسطينيين على الإضرار بـ«إسرائيل». ومع ذلك لا يمكن فهم موجة العنف في الأشهر الأخيرة في سياقها المحلي فقط، إذ إن للأمر ارتباطات إقليمية واسعة.

صحيح أن الجمود السياسي يميّز علاقات «إسرائيل» والفلسطينيين في السنوات الأخيرة، ولكنه في هذه السنوات بالذات ساد استقرار السلطة والهدوء الأمني في مناطق السلطة الفلسطينية، حيث شعر الناس بالرفاه الاقتصادي نسبياً.

ما الذي يفسّر إذن اندلاع العنف في الأشهر الأخيرة؟ لقد أشرنا منذ 2010 إلى أن البنية الفلسطينية تسير باتجاه نوع من الانتفاضة. استخدمنا في حينه مصطلح «انتفاضة بيضاء» والتي كان لها مكان في الوعي الجماهيري. كان ادّعاؤنا أنّ السلطة الفلسطينية ستضغط على «إسرائيل» بدعم من المجتمع الدولي، وأن الوسائل ستكون أعمالاً شعبية مثل التظاهرات والاحتجاجات والمسيرات ومطالبة تحقيق السيادة الفلسطينية.

كان من المفترض أن تكون هذه انتفاضة، وعلى العكس من سابقاتها «الحمراوات» تلك التي اندلعت في كانون الأول 1987 وأيلول 2000، سترتكز على النشاط المدني غير العنيف إذ ستجد «إسرائيل» صعوبة في مواجهتها.

منذ نشر المقال في «هاآرتس» في 22/10/2010، لم تحدث «انتفاضة بيضاء» ولكن تدهور الأمر إلى «معركة بيضاء» أدارتها السلطة ضدّ «إسرائيل». إذ تحولت مؤسّسات الأمم المتحدة في إطارها إلى ساحة مواجهة، الأمر الذي وصل للذروة عام 2011 عند التصويت في الهيئة العمومية على قبول فلسطين عضواً في مؤسسات الأمم المتحدة.

«المعركة البيضاء» عكست، ليس فقط الصدام بين «إسرائيل» والفلسطينيين، إنّما أيضاً الموافقة الصامتة على مسائل أمنية واقتصادية مختلفة. منذ ذهاب ياسر عرفات ومجيء أبو مازن بدلاً منه حظيت السلطة الفلسطينية بمباركة القيادة «الإسرائيلية». وبين الطرفين تشكّلت علاقات خفية وشجاعة على شكل تعاون بين الأعداء.

هذا النمط ساعد «إسرائيل» في تحقيق طموحها في استمرار الوضع القائم جغرافياً، وبثمن معقول. إذ كانت السلطة مسؤولة عن إدارة حياة السكان المحليين. وفي الوقت نفسه بقيت «إسرائيل» مسؤولة عن الأمن، واستمرار الاستيطان في الضفة. واستطاعت السلطة الفلسطينية إقامة سلطة ذاتية في المجالين الاقتصادي والمدني والتخلّص من نتائج الانتفاضة الثانية، التي أدّت إلى سقوط قطاع غزّة في يد «حماس».

«المعركة البيضاء» التي بادرت إليها السلطة ضدّ «إسرائيل» في الساحة الدولية تحوّلت إلى ساحة مواجهة متّفق عليها بين الطرفين. وكانت لها قوانين لعبة واضحة. وهذا مكّن السلطة والتي خافت من تراجع شرعيتها داخلياً بسبب التعاون مع «إسرائيل». مكّنها من الظهور كمحافظة على طموح الشعب الفلسطيني للسيادة والدولة. بالمقابل ساعدت هذه التفاهمات «إسرائيل» في مواجهة الضغط من أجل استئناف المفاوضات، الأمر الذي مكّنها من اتهام السلطة بعدم الشرعية. هذا دفع «إسرائيل» إلى الطلب من أبي مازن بالاعتراف بالهوية اليهودية لـ«إسرائيل» كشرط لاستئناف المفاوضات.

المعركة المتبادلة التي أدارها الأطراف تحوّلت بالنسبة إليهما إلى أمر حيويّ على خلفية الأحداث والتغيّرات في الشرق الأوسط. «الربيع العربي» الذي اندلع في 2010 أعاد طرح مسألة المقاومة الشعبية والمطالبة بإحداث تغييرات سياسية ثورية. لم تمرّ السلطة و«حماس» بما مرّت به الأنظمة في تونس وليبيا وسورية ومصر والبحرين. هكذا تحوّلت المعركة الفلسطينية غير العنيفة إلى استراتيجية مفضلة. وتهدف إلى حرف طاقات المقاومة لدى الجيل الفلسطيني الشاب عن القيادات المحلية وتوجيهها باتجاه «إسرائيل»، مع السعي إلى الإبقاء على التفاهمات الهادئة بين الطرفين.

صحيح أن القيادة الفلسطينية في رام الله وفي غزة قد بقيتا وتجاوزتا موجة العنف التي اجتاحت العالم العربي، لكن «الربيع العربي» تخلخل إلى بنية العلاقات بين «إسرائيل» والفلسطينيين وألحق ضرراً بالتفاهمات الهادئة بين الطرفين، وانتفاضة السكاكين التي اندلعت في أواخر عام 2015 حطّمت منطقة المقاومة السابقة. والذي اعتمد أنماط عمل غير عنيف. تحوّل الشبان الفلسطينيين إلى حاملي لواء المقاومة ووضعوا القيادة الفلسطينية جانباً. الجيل الفلسطيني الذي ولد بعد «أوسلو 1993» يحمل روح المقاومة التي ميّزت شبّان «الربيع العربي» ومصادره الاجتماعية والثقافية والطبقية.

لم يكن «الربيع العربي» نتاج احتجاج سياسي خالص، لقد تركّز الاحتجاج ضدّ القيادات المركزية المسيطرة منذ سستينات القرن الماضي واستهدف الطريقة السياسية ـ الاقتصادية كهدف للتغيير.

انتفاضة السكاكين الحالية ترضع من مصادر مشابهة لمصادر الاحتجاج الاقتصادي العربي. تطوّر تعاون اقتصادي بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة وكان ملائماً للطرفين، وبالنسبة إلى الفلسطينيين فإن الازدهار ساعد في التقليل من أهمية الجمود السياسي وتأثيره والإبقاء على الحياة الاقتصادية في الضفة الغربية.

بالنسبة إلى «إسرائيل»، فإن التعاون كان جزءاً من السعي إلى التهدئة الأمنية عن طريق رفع ثمن الخسارة الاقتصادية في حال اختار الفلسطينيون طريق العنف، إذ زاد في السنوات الأخيرة عدد العمال الفلسطينيين العاملين في «إسرائيل». وأصبحوا بمئات الآلاف واهتم اقتصاديون «إسرائيليون» بمشاريع فلسطينية مثل مدينة «روابي الجديدة».

مع الازدهار الاقتصادي الذي استفاد منه كل من القيادة ورجال الأعمال، زادت الفجوة بحق الشبان الفلسطينيين المتعلّمين الذين ظلّوا خارج الدائرة الاقتصادية، بما في ذلك القدس الشرقية التي تعاني أحياؤها منذ سنوات من الأهمال وغياب البنى التحتية والاستثمارات. وفي وقت توجّه غضب الشبان في العالم العربي ضدّ الأنظمة، فإن غضب الشبان الفلسطينيين وُجّه ضدّ «إسرائيل».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى