هل سقطت الدولة القطريّة المعاصرة وما هو البديل؟
د. وفيق ابراهيم
مع اهتزاز الحدود السياسية للدولة القطرية الخارجة من عباءة الدولة العثمانية بعد انهيارها في الحرب العالمية الأولى، يطرح المتابعون ألف علامة استفهام حول الشكل المرتقب للدولة الحديثة… فهل تسقط التقليدية أم تحافظ على تماسكها وتنجو؟ وهل تمسح القوى المهيمنة بمشاريع كونفدرالية في الإقليم؟
تساؤلات كثيرة تهيمن على عقول الباحثين الذين ذهلوا لتخصيص آل سعود ثلاثة مليارات دولار لبناء حاجز يفصل بلاده عن الحدود العراقية، ونشرت ثلاثين ألف جندي قبالة محافظة الأنبار العراقية معظمهم باكستانيون، فزادت على «إسرائيل» التي بنت بدوره جداراً عازلاً فصلها عن الضفة الغربية في فلسطين المحتلة.
يجب الاعتراف بأن الدولة التقليدية لا تحمي نفسها ببناها بل بعلاقاتها الإقليمية والدولية. وثمة اتجاه أميركي لتشجيع تدمير «التقليدية» المحتوية على مذاهب وإثنيات وأديان لمصلحة دويلات المكون الواحد. و«داعش» نموذج للتدمير استولدت حركتها التخريبية إحساساً بالخطر عند الطبقات الحاكمة والناس العاديين، وشعوراً بالفرح عند الغرب والناتو و«إسرائيل»، لأنها تضرب الدولة التقليدية على خلفية العداء لروسيا وإيران، وبمعدل أقل الصين التي خبأت رأسها وكمنت في خلفية المشهد تراقب التطورات.
للإيضاح، تنقسم دول المنطقة إلى دول تاريخية وأخرى حديثة وليدة الاستعمارين البريطاني والفرنسي. تنتمي مصر والعراق واليمن وعُمان وبلاد الشام إلى فئة البلدان القديمة. غير أن حدودها تبدّلت تكبيراً أو تصغيراً، والحديثة هي السعودية والكويت وقطر والإمارات والأردن ولبنان والسودان والصومال. وتبنّت هذه الدول كافة فور تأسيسها فكرة العروبة في إطار القطرية، وتولت جامعة الدول العربية رفع الهوية غنماً من دون فاعلية.
مع نمو الإسلام السياسي، توسّع صراع جديد بين الدولة الإسلامية والقومية أو القطرية، لتنطرح الإسلامية غير المسلمين جانباً ولا تجد لهم مكاناً إلا في إطار أهل الذمة، إضافة إلى رفضها الأقليات الإسلامية من غير الوهابيين من بين المسلمين. أما القومية، فدونها عقبات جسام أبرزها رفض الغرب و«إسرائيل» لها وعدم وجود دولة قائدة تدفع في هذا الاتجاه، وقد حاول عبد الناصر وعوقب غربياً و«إسرائيلياً» وسعودياً. وحاول البعث وعوقب بعقوبة عبد الناصر نفسها.
بدت الدولة القطرية كأنها حل موقت لمسألة الهوية ويستطيع العربي والكردي والأرمني والمسيحي والسني والشيعي الانتماء إليها. ولا تزال الدولة القطرية هي الحل الناجع الآني حيال طروحات الإسلام التكفيري. فهي تحد من الانهيار السياسي وتحافظ على التضامن الاجتماعي. وها هو العراق يتهاوى بالفكر «الداعشي» تحت مطرقة العداءات المذهبية والإثنية فيما يبدو الانتماء العراقي وسيلة موقتة لمنع الانحدار نحو الهاوية.
المؤكد أن المنطقة السورية ـ العراقية، في حاجة اليوم وأكثر من أي يوم مضى إلى فكر تجميعي يزيد على حجم الضغوط التي تتعرض لها من «داعش» وعصابات التكفير والمعارضات الإرهابية و«إسرائيل» وعرب الخليج وتركيا. ولا يفهمنّ أحدٌ أن هذا المقال يروّج للحل القطري، لكنّه يحاول مع مجمل الباحثين العثور على أدوات التجميع. والمرجّح حتى الآن أن الدولة التقليدية تقاوم محاولات تدميرها وتبدو جاذبة لأنها الآلية الوحيدة القادرة راهناً على توفير التضامن بين المكوّنات القبلية والمذهبية والطائفية والإتنية. وثمة اتجاه يكبر ويدفع في اتجاه تشكيل اتحادات بين دولتين أو ثلاث لتمتين مراكز القوة في الدول القطرية: اتحاد دول الخليج، واتحاد سوري ـ عراقي مرتقب. مقال دفع الغرب نحو مزيد من التعنت والتدمير.
في هذا الإطار تقدم الدولة السورية نظامها حلاً لمسألة دمج الأقليات في إطار من العدالة والمساواة. ولعلّ شعبية هذا النظام وسط الشعب السوري ومناعته هي التي حمته من عدوان سافر وإرهابي لا يزال مستمراً منذ سنين ثلاث بدعم من أميركا والاتحاد الأوروبي وتركيا والأردن و«إسرائيل» ودول آسيا الوسطى والعالم العربي.
إن اتحاداً سورياً ـ عراقياً هو المنشود اليوم للدفاع عن المشرق العربي وفي إمكان هذا الاتحاد أن يمارس دور «بروسيا العرب» التي وحدت في القرن التاسع عشر جميع الولايات الناطقة بالألمانية.
المطلوب إذن تأسيس هذا الاتحاد لمقاومة ثلاثة تحديات، تفتيت العرب أكثر ممّا هم مفتتون، إلحاق الهزيمة بالإسلام التكفيري المدمر، ومجابهة السياسة الخارجية الأميركية في محاولاتها بناء شرق أوسط جديد يندرج في إطار أدوات واشنطن للمحافظة على إمبراطوريتها.