استراتيجية أميركا الكبرى في العراق وسورية والمنطقة 1
وليم بوك
«نحن نكسب كلّ معركة، وتستمرّ المعارك بالحدوث. لكن يبدو أننا لم نعُد نفوز بالحروب. بل أصبحنا الآن ـ وفقاً لكلّ المقاييس ـ أقلّ انتصاراً مما كنّا عليه قبل نحو نصف قرن».
يقول جايمس فالوز: كتب الدبلوماسي والباحث ويليام بوك في «أتلانتيك» للمرة الأولى عام 1958 في مقال عنوانه «درس العراق، ردّد من بعدي: الماضي لا يموت…» وفي السنوات القليلة الماضية، رصدتُ له عدّة تحليلات كمثل «الاحتمالات في أفغانستان» و«المأساة السورية». وها هو يعود الآن في تقويم عميق حول وضع الولايات المتحدة الأميركية الحالي في الشرق الأوسط، وما إذا كان بإمكانها التحسين في سياستها بشيء أو على الأقلّ تفادي الوقوع في الأسوأ. قد توافق عزيزي القارئ أو لا توافق ما ستقرأه في هذا المقال، وأتمنى أن تجده مفيداً وواضحاً كما وجدته أنا، وأن يوجّه تفكيرك نحو الأزمات في المنطقة وفي وضع الاقتراحات لردود فعل الولايات المتحدة.
وننطلق الآن إلى ويليام بوك، عضو في مجلس التخطيط السياسي المسؤول عن شمال أفريقيا والشرق الأوسط وغرب آسيا لأكثر من أربع سنوات خلال عهدَيْ كينيدي وجونسون. كان واحداً من الرجال الثلاثة الذين أداروا أزمة الصواريخ الكوبية. أصبح لاحقاً أستاذاً للتاريخ في جامعة شيكاغو، ثم مديراً لمركز دراسات الشرق الأوسط ورئيساً ومؤسساً لمعهد «أدلاي ستيفنسون للعلاقات الدولية». ألّف أكثر من 17 كتاباً في العلاقات والشؤون العالمية، بما فيها «الولايات المتحدة والعالم العربي: السلام المراوغ» «الشرق الأوسط في القرن العشرين» «في فهم العراق» «في فهم إيران» «سياسة العنف: تاريخ من التمرّد والإرهاب» إضافةً إلى عددٍ من المقالات حول الشؤون الخارجية والمحيط الأطلسي وهاربرز ونشرة علماء الذرّة في «لو موند ديبلوماتيك». حاضَر في عددٍ من الجامعات وفي مجلس العلاقات الخارجية، «تشاتام هاوس»، معهد العلوم السياسية، أكاديمية العلوم السوفياتية، وظهر في أحيان كثيرة على شاشات «بي بي سي»، و«سي بي إس» وغيرها من المحطات العالمية. أحدث كتبه المنشورة والمتوفرة أيضاً عبر موقع «أمازون»، كتاب «هامبتي دامبتي: مصير تغيير النظام».
التحجّر العقلي والانتقادات
غالباً ما تنتهي التحليلات بشأن العلاقات الخارجية بتحجّر عقليّ. كما رأينا في أزمات حديثة مثل الصومال، مالي، ليبيا، العراق، سورية، أوكرانيا وإيران. فرجال العلاقات العملانيون يريدون أجوبة سريعة. يقولون: «لا تزعجونا بالسؤال حول كيفية وصولنا إلى هنا، ها نحن هنا، فماذا سنفعل الآن». النتيجة المتوقعة نوع من التجزئة العصبية في الجسم السياسي: نحن نترنّح في حالات طوارئ الواحدة تلو الأخرى في مسلسل لا ينتهي. هذا ليس بالأمر الجديد. فكلّنا سخرنا من ترداد المنظومة التالية: تجهّز، أطلق، استهدفْ. غير أن هذه الكلمات ليس مزحة في حقيقة الأمر. فقد حمل الجنود المشاة البندقية على مدى قرون وأُمروا بإطلاق النار، وأعطوا التعليمات لتحديد أهداف العدوّ. يعتقد قادتهم أنّ هذا حصل بفعل التأثير الشامل، والانتقادات التي تعرّضوا لها في ذلك الوقت.
وما زال قادتنا يصدّقون هذا. يعتقدون أننا نمتلك الصدمة والرعب، نمتلك التكنولوجيا الرائعة والقاذفات المتخفية، طائرات من دون طيار، كل الخبرات المعرفية، قواتنا الكثيرة، والأموال المتوفرة، تشكل جميعها القدرة على الهجوم المدمّر. كلّ ما علينا القيام به تحديد الهدف ثمّ… التصويب.
فنقصف ونقصف مجدداً. نربح كل معركة، لكن المعارك تستمرّ بالحدوث. ويبدو أننا لم نعُد نفوز بالحروب. بل أصبحنا الآن ـ ووفقاً لكلّ المقاييس ـ أقلّ انتصاراً ممّا كنا عليه قبل نحو نصف قرن.
مهنياً، أجد أنه لمن المقلق أن أستمرّ بكتابة مثل هذه الملاحظات. وكعددٍ من زملائي، يبدو أننا لم نتعلّم من درس فييتنام. كما أعلن عن هذا سابقاً رئيس المحافظين الجدد سام هانتنغتون. كان هو من قاد الطريق، ويسانده الآن عدد في آرائه هذه.
لكن ما الذي يستطيعون قوله لنا، عدا عن تأكيدهم أننا لم نتعلّم من خسارتنا الدم والعرَق والدموع فضلاً عن البلايين من الدولارات. وفي كلّ أزمة تتفجر، يشدّد مسؤولونا على مدى فرادتها واختلافها، مع تحليل عقيم لخلفياتها وعدم القدرة على رؤيتها في ظلّ الأحداث المحيطة. هي كذلك، لذا، تستلزم منهم تحرّكاً سريعاً فيما أصبح يُعرف الآن بـ«الانتقادات».
أما الأسباب التي تحفّز الجانب الآخر فلم تعُد ذات أهمية، أو ما يأبهون لأمره بعض كاتبي التاريخ أو أولئك الثرثارين القابعين في أبراجهم العاجية، والذين لا يلفتون انتباه أحداً في العالم الحقيقي. فالرجال الحقيقيون هم من يتصرّفون ويبادرون.
والأمثلة على ذلك متعدّدة. فها هي الصومال: هؤلاء البائسون من مواطنيها ليسوا سوى حفنة من الإرهابيين يعيشون في دولة فاشلة تجسّد القرصنة الحديثة حول العالم. ونحن ـ بكلّ بساطة ـ نعلم ما يجدر بنا القيام به. فهذا التقدير، كما ترى أجهزة الاستخبارات العالمية، هو ما دأبنا عليه طوال سنوات مضت، ولا نزال. وكما أشار بعضنا، هذا الدأب الذي لم يتوقف والذي حرم الكثيرين من الرجال من تأمين لقمة عيشهم، كالصيادين الذين توقفت أعمالهم وجاعت عائلاتهم بسبب الأساطيل الصناعية، والتسليح بالرادارات والسونار وشبكات السحب، التي انتشرت على طول شواطئهم، لم يجدوا مفراً يحول دون لجوئهم إلى القرصنة. ولأنهم بحّارة حقيقيون، ويمتلكون قوارب صيدهم ومواقعهم قريبة من الممرات التجارية وشحن البضائع، أصبح الجواب بديهياً: القوة المسلّحة. ورأينا أن إرسال القوات العسكرية البحرية سيكون حكماً أمراً مكلفاً ولن يوقف من إصرار هؤلاء الرجال البائسين. لم يتوقع أحد أنّ القرار الجائر بوقف صيد هؤلاء سيحوّلهم إلى قراصنة. وأيضاً في الصومال وبينما نتحدث بتعجرف عن دولة فاشلة. لا يعتبر الصوماليون أنهم ينتمون إلى دولة بل على العكس هم مجموعة من مجتمعات منقسمة تعيش في ظلّ نظام ديني ـ ثقافي مشترك. كما عاش جميع أسلافنا ـ في الواقع ـ إلى حين نموّ نظام الدولة القومية في أوروبا. لكننا نجد أن هذا النظام لا ينطبق الآن على الوضع الصومالي. لكن، لمَ التراجع القهقرى؟ فإذا كان هذا سيحصل الآن، فإن من شأن القرصنة إنهاء السلام الذي قد يحلّ. لكن عندما يحاول الصوماليون وبعناد الحفاظ على نظامهم، ونحن نحاول جهدنا التحديث والإصلاح والتخريب والتدمير. وما زلنا نسعى إلى تجريب كل هذه الخيارات معاً.
يمكننا تطبيق النموذج الصومالي على جميع أنحاء العالم في كلّ مرّة ننتقل فيها من أزمة إلى أخرى. أثبتنا أنّنا بارعون في التكتيك لكن ليس في الاستراتيجيات، قنّاصون لكنّنا لا نجيد الرماية. والأهم من هذا كلّه، نتحدّث بأصوات عالية، لكننا نفتقر إلى فنّ الإصغاء.
وفي سورية أيضاً، يتجلّى لدينا ميل إلى الاعتماد على القوّة. فبعد مضيّ وقت قصير على تحرّرها من الاستعمار الفرنسي الغاشم والذي تخلّله قصف العاصمة دمشق ، انخرطنا في أعمال تخريبية تهدف إلى الإطاحة بالقادة ومؤسّساتهم الهشّة التي يمثّلونها. وقد بدأوا في الآونة الأخيرة توثيق أعمالنا، وعرف بها السوريون منذ وقت بعيد. وقد خلقت أعمالنا التخريبية على مدى عقود مضت تراكماً قياسياً من التهديدات التي كنّا غافلين عنها، لكنها كانت معروفة لديهم. وبالتالي، أصبح من المستحيل إقناع أيّ سوري سواء من الناحية الدينية أم السياسية بأهدافنا «الخيّرة».
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق