هيكل.. الحاجة لاستشراف نبيّ

نظام مارديني

لن يكون سهلاً على السلطة الرابعة العربية استيعاب خبر رحيل عميدها الباحث والسياسي والمثقف الكبير محمد حسنين هيكل، الصحافي الملتزم الذي اشتهر بكونه مهنياً صلباً، ومناضلاً جريئاً لأجل حرية عالمه العربي الذي يريد له أعداؤه أن يعيش عمليّة تغيير خريطته كاملة، عبر التفتيت والتقسيم…

كان مستشرفاً أن دويلات جديدة ستقوم في العالم العربي ولا بدّ من تصفية كلّ مَن يعترض طريقها.

الصحافي المحترف لا يولد كبيراً ومشهوراً، الموهبة وحدها لا تكفي. لا بد من جوهرتها بـ «النار» في مطبخ الصحافة أولاً. وقد ولد هيكل الصحافي في مكتب التحرير محرراً في «آخر ساعة» عام 1944. ومن حسن حظه أنه عمل تحت رئاسة محمد التابعي مؤسس المدرسة الصحافية العربية الجديدة.

واكب هيكل مخاض ثورة الضباط الأحرار وتأسيس الجمهورية وتعرف إلى قادتها وحاورهم لكنه كان الأقرب إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر حتى بدا أنه كاتم أسراره، إذ كان يلتقيه مرات عدة أسبوعياً. وأتحف المكتبة الصحافية السياسية العربية بدزينات من المؤلفات الضخمة والهامة ستبقى مراجع يعاد إليها لتوثيق الحراك السياسي العربي في القرن العشرين. اتخذ من الناصرية منهجاً وطريقة تفكير وبقي أميناً ووفياً لها طيلة فترة عطائه وتحمل لأجل قناعته الكثير من النقد والسجن والضغوط. ولكن الصحافة مهنة زئبقية لا تعرف الوفاء، إذا كان طبيعياً أن يكون رجل بهذه المواصفات مطارداً من السلطة الفاشية التي كان يمثلها السادات بعد اتفاقية العار كامب ديفيد .

مَن يقرأ اليوم مطوّلات هيكل السياسية التي هزت العالم العربي في الخمسينيات والستينيات؟ لا أحد، اللهم إلا المؤرخ والباحث السياسي. فقد انقضى زمانها بأفراحه وأحزانه. ولم يبق منها للصحافي المحترف سوى فن المقالة السياسية، وتقنية هيكل وفصاحته المتأثرة بإسهاب طه حسين، وفن العرض عنده المتأثر بالأسلوب الغربي في التشويق والإثارة.

إن عميد الصحافة العربية لا يُرثى بكلمات عُجلى، لأنه كان كنزاً ثميناً من الأفكار النيّرة والأعمال الخلاقة، ستظل آثاره الصحافية وكتاباته خالدة لتذكّرنا بمآثر مؤلفها… كما سيبقى هيكل في ذاكرة السلطة الرابعة وهو أحد أعلامها الكبار الذين أغنوا المشهد السياسي العربي بالعديد من المؤلفات.

هيكل… وحده الذي استطاع في خيمياء الكلمة تحويل قزم الكلام إلى «أهرام» مدوّية.

محمد حسنين هيكل.. سيفتقدك العرب عندما يهتدون إلى مَن يضيء آفاق المستقبل ويرتاد مجاهيله مستشرفاً، عندما تصحو عقولهم من عجاج داحس والغبراء الوهابي!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى