غزّة وحسابات الحقل والبيدر

رامز مصطفى

وجد نتنياهو وقادته في قضية اختطاف الجنود الصهاينة الثلاثة، ثم في اكتشاف مقتلهم في الضفة الغربية، ذريعة نموذجية للتحريض ضد الفلسطينيين، وحركة حماس تحديداً، التي اتهمها نتنياهو بأنها تقف وراء عملية قتل هؤلاء الجنود. نتج من هذا التحريض الممنهج ضدّ الفلسطينيين، أن أقدمت مجموعة من المستوطنين الصهاينة على اختطاف الشهيد الشاب المقدسي محمد أبو خضير وحرقه حياً. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل نفّذت قوات الاحتلال عمليات اعتقال واسعة طالت مئات الفلسطينيين وبينهم نواب ووزراء ومحرّرون في صفقة شاليط وناشطون.

هذه الممارسات التعسّفية والإجرامية كفيلة بإشغال الضفة التصعيد في اتجاه اندلاع انتفاضة ثالثة في سائر مناطق الضفة الغربية. ولم تقف الغضبة الفلسطينية عند حدود أراضي الضفة، بل تعدتها إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وهذا تطور غير مسبوق وضع حكومة نتنياهو أمام حقيقة قاسية وخطيرة، مفادها أنّ الفلسطينيين في مدن وقرى مناطق العام 1948، وبعد مرور 66 عاماً على النكبة لا يزالون متمسكين أكثر من أي وقت مضى بهويتهم الوطنية الفلسطينية وبأرض الأجداد والآباء، ولم يتمكن الكيان من تذويبهم أو دفعهم إلى الانصهار في المجتمع الصهيوني.

يضاف إلى هذه القضايا أو العناوين أو الحوادث كلّها، انسداد أفق المفاوضات بين المنظمة والسلطة من جانب، وحكومة نتنياهو من جانب آخر. ومنيت جهود الوزير الأميركي جون كيري بالفشل الذريع بسبب التعنّت الصهيوني ورفضه المطلق إعطاء السلطة أي مكسب سياسي أو تنازل، رغم جميع التنازلات التي قدّمها رئيس السلطة لإنجاح المفاوضات. إلاّ أن نتنياهو ومختلف القيادات في الكيان كانوا ولا يزالون مصرّين على اعتراف السلطة ورئيسها بيهودية الكيان كمدخل إجباري للتوصل إلى تسوية تاريخية بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين.

هذه النقاط شكّلت أسباباً كافية لينفذ العدو الصهيوني عدوانه الواسع على قطاع غزة. فهو يريد من ناحية تدفيع المقاومة الفلسطينية الثمن بأثر رجعي عن حربي 2008 و 2012 علّه يجد ضالته في تحقيق ذلك، فتكون المقدمة إذا نجح لإلحاق الهزيمة بالمقاومة في القطاع، وشن عدوان واسع على لبنان للقضاء أيضاً على حزب الله ثأراً لمسلسل الهزائم منذ عام 2000 إلى عام 2006، وبالتالي قطع يد الحزب والدول الحاضنة للمقاومة الفلسطينية لمنعها من تقديم أشكال الدعم لقوى المقاومة في غزة، وهو يدرك ويعرف أن لهذه القوى اليد الطولى في ما تبديه وتظهره هذه القوى من إمكانات وتكتيكات عسكرية ردعية في مواجهة آلة القتل والإرهاب الصهيوني، ليكتشف نتنياهو وقادته أنّ الوقائع تثبت عدم القدرة على تحقيق ذلك بسبب الضربات الصاروخية المستمرة والمتصاعدة والعمليات النوعية في عمق الكيان لرجال المقاومة في عسقلان ومستوطنة صوفا، وتسيير الطائرات من دون طيار من أبابيل 1. والتصدي البطولي لمحاولة الإنزال الفاشلة للبحرية الصهيونية في منطقة السودانية. وهو لأجل ذلك، ورغم مما يبديه من مكابرة، يستجدي الإدارة الأميركية الضغط لإنهاء القتال والمعارك على جبهة عرضها وطولها مجمل مساحة أراضي فلسطين المحتلة.

في الضفة الأخرى، حيث السلطة ورئيسها، لم تتسم المواقف ويا للأسف منذ ما قبل العدوان إلى واقعتي الجنود الصهاينة الثلاثة ومقتلهم إلى حرق الشاب الفلسطيني أبو خضير حياً على يد مستوطنين بالمسؤولية ولم ترتقِ إلى مستوى تحمّل هذه المسؤوليات، كسلطة مسؤولة عن حماية الشعب الفلسطيني من الاحتلال وجرائمه، بل تصرفت على نحو مغاير لهذا الدور، فهي لطالما شددت على تمسكها بالتنسيق الأمني مع الكيان وساهمت حتى الآن في منع الانتفاضة الثالثة بمختلف الوسائل! هذه الانتفاضة التي أضحت إرهاصاتها في أعلى مستوى من الاحتقان جراء ممارسات وجرائم الاحتلال المتواصلة في الضفة، وليس آخرها جريمة حرق الشهيد أبو خضير من مخيم شعفاط في القدس، والتي كانت أيضاً من الأسباب التي حملت حكومة نتنياهو إلى الهرب نحو العدوان على غزة لقطع الطريق على هذه الانتفاضة، إذ قال المعلق العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت» بن يشاي إن حرق الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير قد يسبب باشتعال جبهة الضفة الغربية على نحو غير مسبوق، مشيراً إلى أن اشتعال هذه الجبهة قد يقلب الموازين رأساً على عقب. فضلاً عن استفحال الاستيطان وتهويد القدس. إن مشاركة رئيس السلطة في مؤتمر السلام الذي عقدته صحيفة «هآرتس العبرية» وتصريحاته أمام المؤتمر في تسجيل مصور، شكلت خيبة أمل لدى جموع الشعب الفلسطيني، فالمؤتمر تزامن مع العدوان على القطاع، بالإضافة إلى المسكوت عنه في جريمة المستوطنين قتلة الشهيد أبو خضير. وفي خطوة اعتبرت كشفاً لظهر المقاومة في القطاع، وافقت حكومة التوافق الوطني برئاسة الدكتور الحمد الله على المبادرة المصرية الملتبسة، ويُشتمّ من خلالها أنها صيغت بما يريح الاحتلال وحكومة نتنياهو ويساوي بين المعتدي الصهيوني والمعتدى عليه الشعب الفلسطيني. هذه الموافقة من قبل السلطة عبر حكومة

الحمد الله تمّت على خلفية أن المبادرة المصرية نوقشت مع السلطة وأخذ رأيها وموافقتها قبل الإعلان عنها. والمسوّغ المصري أن السلطة هي المرجعية الرسمية بعدما تمت المصالحة، ويندرج هذا في خانة التوظيف وتعزيز المكاسب وتوسيع رقعة وضع اليد، بعيداً عن المساءلة من الشركاء المفترضين.

إنّ انتصار المقاومة في فلسطين اليوم هو انتصار لمشروع المقاومة في الأمة، وينبغي أن يؤسس عليه لإعادة تصويب البوصلة نحو فلسطين، قضية العرب والمسلمين المركزية. وإذا كنا لا نخشى على المقاومة الفلسطينية وشعبها الصامد، فإننا نخشى ما يُدبّر لها في كواليس السياسة التي تُعقد في غير عاصمة، أن تكون على حساب المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، فتُهدر تضحياته ودماء أبنائه في زواريب المكاسب الفئوية الضيقة ودهاليزها. وأخاف من اليوم التالي لدخول التهدئة حيّز التنفيذ كيف ستوظف نتائج الانتصار؟ ومن يستثمر تلك النتائج؟ وفي أي سياق ستُوظّف؟ فحسابات الحقل والبيدر في غزة ليست واحدة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى