كيف لا نحوّل هيكل إلى مومياء أو أيقونة… كيف نبقيه «حيّاً»؟!
نصّار إبراهيم
الإعلام كلمة رصينة ودقيقة، علم ومهنية، مبدأ وموقف وانتماء، قوة كشف ونقد، حرّية ومسؤولية، وبكلمة: الإعلام قضية!
لقد رحل محمد حسنين هيكل أسطورة الإعلام العربي في القرن العشرين،
هدفي الأساس في هذا المقال الكثيف ليس تأبيناً أو رثاءً للراحل العملا. وليس توثيقاً لسيرة حياته وتجربته. ما أريده فكرة حاسمة واحدة هي: لفت نظر الإعلاميين العرب والكتّاب والصحافيين والساسة إلى النموذج الذي مثّله محمد حسنين هيكل في تجربته الممتدة على أكثر من سبعين سنة. هنا تكمن قيمة الاحتفاء والاحترام لمحمد حسنين هيكل، إضافة إلى الثروة الفكرية والتاريخية والسياسية التي تركها. بهذا نحافظ على هيكل حياً، ولا نجعل منه كعادتنا مجرّد عنوان احتفاليّ كرنفاليّ!
الآن، نحن بحاجة إلى استلهام تجربة هيكل وكلّ التجارب الإبداعية في حقل الإعلام أكثر من أيّ وقت مضى. الآن حيث هذا العصف الهائل والمدمّر الذي يدور حولنا، حيث الإعلام يشكّل أداة جبّارة في تشكيل الوعي والموقف والسياسة، الآن حيث سقط كثيرون من الأعلاميين العرب في الاختبار الطاحن الذي تمرّ به الأمة. لقد سقطوا في الامتحان من الجولة الأولى حين تحوّلوا إلى مجرّد أدوات رخيصة في التحريض والتعبئة الطائفية والدينية والعنصرية وجفاف الخيال. فانكشفت بهذا السقوط المروّع أهوال العفن والضحالة والخفة في التعامل مع القضايا والأسئلة المصيرية، حين انحاز كثيرون من هؤلاء الإعلاميين إلى كلّ ما يهين ويشوه تاريخ الأمة.
ستكون جريمة موصوفة جديدة أن نحوّل هيكل إلى مومياء، أو أيقونة معلقة على جدران المتاحف، بينما المطلوب أن نجعل من تجربة هيكل ومهنيته وشجاعته وشموليته والتزامه ورصانته ودقته، مدرسة لإعادة ترميم ما لحق بالإعلام من تشويه ومن ضحالة. كيف نستغل رحيل هيكل لنعيد بناء الأداء الإعلامي العربي؟ وأن نحاكم بقسوة أي أداء هابط؟ لن يجيب هيكل على كل ذلك، لكن تجربته بمثابة ثروة قومية توازي أيّ ثروة طبيعية من حيث أهميتها وقيمتها. فهل سنتجاوز دائرة الرثاء والتبجيل إلى دائرة الفعل والحيوية في قراءة التجربة والتعلم منها؟ هذا هو السؤال.
هيكل مدرسة هائلة في عالم الإعلام، كما شكّل نموذجاً مدهشاً في ترجمة دور الإعلامي عند التعامل مع تحديات الواقع وأسئلته. الإعلام ليس مجرّد ثرثرة بل علم، والإعلامي عليه أن يكدّ ويتعب في جمع المعلومة وتدقيقها والوصول إليها كي لا يلقي الكلام على عواهنه. الإعلام ليس دعاية رخيصة إنما هو رسالة عميقة وخطيرة.
لقد تميز هيكل بأنه إعلامي محترف بكل معنى الكلمة. لكن احترافه لم يكن احترافاً ستاتيكياً أو جامداً. لقد كان إعلامياً حيوياً وفاعلاً وعلمياً ولكنه لم يكن حيادياً، بنى تجربته بالدراسة والمعرفة والشجاعة والصبر.
الإعلام عند هيكل ليس مهنة بل معرفة وموقف ومبدأ، فهو لم يكتب باللغة المائعة أو العمياء على حدّ قول كنفاني. بل كان يحمل القلم ليدافع عن قضية وعن خيارات واضح. قضية مصر، قضية العرب فلسطين، قضية الحرية، قضية شعوب العالم الثالث في مواجهة قوى الاستعمار. لقد دافع عن حقوق شعب مصر في الاستقلال والتقدّم. دافع عن تأميم قناة السويس ودافع عن مشروع السد العالي. وقانون الإصلاح الزراعي، كما لم يصمت أمام انزياح السادات نحو القوى الاستعمارية الغربية ونحو الاحتلال «الإسرائيلي». لقد بقي مؤمناً بدور مصر العربي والقيادي الفاعل على مستوى المنطقة والإقليم… هذا هو الإعلامي الأصيل.
لم تتزعزع ركائز موقفه مع تبدّل الحكام. نعم، لقد كان واقعياً. فكان يدرك التحوّلات في الواقع السياسي والاجتماعي والعالمي. لكن قلبه وقلمه وعقله وفكره دائماً مع مصر وعلى مصر والأمة.
جاء السادات فوقف إلى جانبه في خياراته حين كانت تعني الاستعداد لحرب أكتوبر، وأثناء حرب الاستنزاف. ولكن ما أن انحرف السادات وبدأ يدير ظهره لمصالح مصر وتاريخها، وانتقل إلى أحضان الولايات المتحدة، حتى وقف الإعلامي هيكل وبوضوح ضدّ ذلك، الأمر الذي انتهى به إلى السجن. ومع ذلك لم ينحن ولم يساوم.
كان أعلامياً وصحافياً وكاتباً وسياسياً ومفكراً بارعاً، كان يكتب ويوثق ويؤرخ. كان يجعل من السياسة قضية إعلامية ومن الإعلام قضية سياسية، وكل ذلك يستند إلى ثقافة واضحة من حيث مضمونها وخياراتها، ثقافة قومية عروبية تقدمية إنسانية. وفي كل ذلك لم يهبط هيكل بأدائه المهني، لم يشوّه الإعلام، ولم يحوّله إلى إشاعة، بل بقي ملتزماً بأصول الإعلام المهنية والعلمية.
ولأن هيكل كان كلّ هذا، ولأنه بقي وفياً لمفهوم ثورة «23 يوليو» وقيمها وأحلام عبد الناصر، وبعدها كلّ ثورات الشعب المصري العظيم، ولأنه لم يساوم على مصر وقضايا العرب. فإن كلّ من هم ضدّ هذه القيم من قوى سياسية رجعية ومتخلفة وإعلاميين صغار نراهم اليوم يتطاولون على هيكل، هذا ما نلاحظه بوضوح في أوساط «الإخوان المسلمين» وعند بعض الإعلاميين التافهين. تلك هي ثقافة الانتقام التي لا ترى أبعد من ذاتها، إعلاميو السلطة بمعناها الهابط، الأقلام المأجورة لقوى الغزو الثقافي ، الإعلام الطائفي الذي يفتقد للعمق والخيال الثري، يحدث هذا لأن هيكل هو نقيضهم، فهو بأصالته يذكرهم دائماً بضآلتهم وعجزهم وجبنهم. لهذا يحاولون المساس به، فالقمم العالية هي دائماً عنوان مناسب للثرثرة والحقد والغيرة والسفالات، لكنها لا تهتم، لأنها مشبعة بذاتها كقمم.
لو أن هيكل في دول تحترم نفسها لأصبح رمزاً قومياً في كلّ البلاد. لو أن هيكل في دول تحترم نفسها لجرى تدريس تجربته وكتبه ومنهجه الإعلامي والصحافي في الجامعات.
هذا هو محمد حسنين هيكل الذي رحل، هكذا على الإعلامي أن يكون، أو لا يكون!