ذكّر إن تنفع الذكرى

في هذا الجمعة أستعيد مقالاً عمره سنة بالتمام والكمال، عندما تزامنت تغييرات قيادة ما يسمّى بـ«الائتلاف السوري المعارض» مع تغيّر القيادة القطرية لحزب البعث، والتغييرين الجوهريين في البنيتين المتواجهتين شعبياً وسياسياً وعسكرياً في سورية. كان كلّ منهما لشدّ عصب الجبهة التي يمثّلها في الحرب.

جاءت الأحداث اليوم لتقول إنّ المسار الذي عرفه «الائتلاف» خلال سنة من هذه التغييرات، مسار انحداري وصولاً إلى الانحلال، وإن المسار الذي اختطّته الجبهة الداخلية للدولة السورية بعد تغييرات القيادة الحزبية، مسار تصاعدي نحو المزيد من مصادر القوّة، عبّرت عن نفسها بصورة مباشرة بكتائب البعث من جهة، وقوات الدفاع الوطني من جهة أخرى، والحصيلة واضحة اليوم في كل جبهات القتال.

المقال استقراء في لحظة ولادة التغييرات لما سيترتب عليها.

التغييرات السورية متتالية

في 18/7/2013

تزامنت تغييرات القيادة القطرية لحزب البعث في سورية مع تغييرات في قيادة «الائتلاف المعارض». ويبدو مستحيلاً عدم ربط التغييرين بالمتغيرات في المشهد السياسي.

يمكن لاستقراء هادئ لمغزى التغييرين استكشاف ماهية التطوّرات المرتقبة في سورية، وكيفية استعداد كل من الفريقين المتواجهين لملاقاتها واستقراء طبيعة الرسائل التي حملتها مواجهة السنتين عن المطلوب ملاقاته، والاستعداد له وما يجب تغييره في البنية للتمكن من تحقيق أعلى الأرباح، أو الوقوع في أقلّ الخسائر.

ماهية التغيير الرئيسي في «الائتلاف المعارض» تركزت على الزجّ بكتلة جديدة من عشرين عضواً في الهيئة العامة لإغراق المجموعة الاخوانية المهيمنة وصولاً إلى تمكين هذه المجموعة الجديدة التي يقودها ميشال كيلو وتضمّ ممثلين عن الاستخبارات السعودية يتزعّمهم أحمد الجربا، من تولّي رئاسة «الائتلاف» بشخص الجربا، وهذا يعني أن التغيير يقوم على إبعاد الاخوان عن القرار وتحجيمهم على إيقاع التغيير المصري، والتأقلم مع نهاية الحقبة الاخوانية من جهة، واستبدال نموذج العنوان الديني الوسطي بين الاخوان والسلفية الذي مثله أحمد معاذ الخطيب بنموذج يتحمّل أعباء الاشتباك العلني مع مفردات القاعدة من جهة أخرى.

التغيير في الائتلاف تعبير عن إمساك سعوديّ بدفة القرار بدلاً من قطر وتركيا، لكن هذا لا يفيدنا في فهمِ مغزاه السياسي إلا بربطه بإنهاء حقبة القيادة الاخوانية والسلفية من قيادة رسمية للمعارضة تنعقد عند إطارها موارد المال والتسليح والتعامل السياسي من دوائر الغرب والخليج، وهذا يعني من جهة محاولة تخفيف خسائر انهيار المشروع الاخواني عن المعارضة، والسعي إلى تحييدها عن تداعيات الصراع المفتوح بين هذا المشروع في كل من مصر وتركيا مع العلمانيين والليبراليين في المجتمع، والجيوش والمدعومين من الغرب أيضاً، كما يعني من جهة أخرى التحسّب لملاقاة مرحلة التصادم الداهم يوماً بعد يوم مع مفردات القاعدة المتعدّدة في جسم المعارضة، وهو تصادم بدأت تباشيره بغضّ النظر عن التفسيرات المجتزأه لمغزاها.

هذا التغيير إذاً، على رغم كل ما قيل فيه، هو محاولة دفاعية للنأي بالنفس عن أضرار قادمة والتخفيف من أعباءٍ ماضية، والاستعداد لتشقّقات في البنيتين الشعبية والعسكرية. يجب أن يبقى الرأس السياسي بعيداً عنها أو أن يكون على ضفة أحد مكوّناتها الأكثر انسجاماً مع الرؤيا المستقبلية للمنطقة، حيث لا مكان لمشروع الاخوان، وحيث التصادم مع القاعدة.

في إسقاط هذا التهيؤ على مكوّنات قوى المعارضة و فاعليتها، نستتنج ببساطة أن الاتجاه هو لتجريد المعارضة الرسمية من ثقليها الشعبي الاخواني والعسكري السلفي، وما يعنيه ذلك من تهميشها في الداخل السوري السياسي والعسكري وتحويلها إلى مجرد عنوان خارجي قد يصلح للجلوس على كرسي التفاوض بلا قدمين في الميدان العسكري يؤهلها التشارك في وقف نار، وبلا يدين في السياسة تؤهلها خوض انتخابات.

إنّ المبالغة بالتأثّر بتصاعد الضجيج عن التسليح والهجوم المعاكس واستعادة التوازن العسكري لما قبل معركة القصير، قد نثر غباراً منع الكثيرين من رؤية هذه المعادلة الجديدة، والتوهم أنّ ما جرى في جسم الائتلاف خروج من مرحلة التشرذم والضعف إلى مرحلة من التماسك والقوّة.

الائتلاف يستعد للتحوّل إلى لافتة خارجية لحضور مؤتمر جنيف بقيادة سعودية بعد التخفيف من جسميه الشعبي والعسكري، والتخلي عن أوهام الحسم العسكري والتنافس الانتخابي للرضا بدور يرسم من فوق في سورية الجديدة.

على ضفة حزب البعث نستطيع الاستقراء أيضاً من ماهية التغيير أن ترحيل كل رموز القيادة السابقة التي كانت بقادتها البارزين تنأى بنفسها عن الأزمة وتروج لكونها أزمة الجيش والأمن، واستطراداً الرئيس لا الحزب، والمجيء مكانها بقيادة تولّت بغالبيتها مسؤوليات ميدانية وإدارية كمفاصل في خوض الحرب جنباً إلى جنب مع الجيش والأمن وتحت راية الرئيس، يعني إنهاء مرحلة القتال بالجيش منفرداً أو بالجيش وبعض التعبئة الشعبية، للانتقال إلى مرحلة الحزب المقاتل الذي جسّد تجربته في حلب أمين فرع الحزب الذي جاء أميناً قطرياً مساعداً في التغييرات الجديدة.

الانتقال إلى الحزب المقاتل يعني التهيّؤ لمعارك عسكرية ضخمة تتسع جبهات القتال فيها للجيش والتعبئة الشعبية وآلاف المقاتلين البعثيين الذين ستتولى القيادة الجديدة تعبئتهم وتنظيمهم. وهي معارك بانت مقدّماتها في حسم حمص وريف دمشق، وتبدو حلب المسرح الأهم المقبل لأضخمها.

من جهة ثانية تشير التغييرات إلى انتماء غالبية رموز القيادة الجديدة إلى التيار الشعبي في الحزب، أي التيار الذي يحمل انتقادات قاسية لتبرجز الحزب وبيروقراطيته، والأبراج العاجية التي سكنتها قيادته طوال سنوات، والتوجّهات الاقتصادية اللاشعبية التي سلكتها لحساب التقرّب من الرأسمال الطفيلي العقاري والخدماتي من شركات تأجير السيارات والشقق المفروشة والمقاولات والصيرفة ومكاتب السفر وإدارة العشوائيات، وما يقال في كل هذه الظواهر من تحوّل جزء كبير من القيادة الحزبية القديمة وبطانتها إلى طفيليات اقتصادية على حساب الرأسمال الوطني الصناعي والزراعي، خصوصاً على حساب مكاسب الطبقات الوسطى والفقيرة التي راكمتها تجربة الحزب في ثلاثة عقود، بينما ينتمي رموز القيادة الجديدة إلى فكر البعث التقليدي المتمسّك بدور الدولة الاقتصادي وبمكاسب الطبقات الوسطى والفقيرة.

حزب البعث يفتتح مسيرة نقد ذاتي لإعادة الوصل بقاعدته التاريخية وتوسيعها والتشبيك مع شرائح وضعتها الحرب في ضفة القتال مع الدولة من موقع وطنيتها لا تلاقيها العقائدي مع الحزب، خصوصاً التيارات الدينية والرأسمالية الوطنية. كما يتسعدّ لمرحلة نوعية من الحسم العسكري والتكامل مع الجيش الذي شكّل نواة الحزب الحيّة في أزمة بدت القيادة الحزبية فيها في حالة موت سريري.

من إسقاط التغييرين المتقابلين على المشهد السوري سياسياً، وبمعزل عن الترحيب والانزعاج أو قياس الأهليات الفردية للنجاح والفشل، يمكن القول إنّ سورية تستعدّ لمرحلة تكون فيها دولة البعث مؤهلة للحسم العسكري والتنافس الانتخابي في معادلة إصلاحية تمنح قوى المعارضة بمختلف ألوانها نسبة من الحضور السياسي والتفاوضي لتأمين التراجع العالمي والإقليمي عن خيار الحرب على الدولة، التي ستكون الشريك الأبرز في الحرب على الإرهاب، وحيث معيار الاعتراف الدولي بالمعارضين يمرّ بمدى قدرتهم على فصل صفوفهم وتمييزها عن مكوّنات القاعدة.

لا يغيّر من هذا كون التفاوض يجري على صفيح ساخن يتواصل فيه الضغط وصيحات العسكرة.

إذاً، تغييرات لملاقاة سورية الأسد 2014 بحكومة ائتلافية وبرلمان تعدّدي لا مكان فيهما للإخوان ولا حوار مع مفردات القاعدة إلا بالسلاح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى