المشروع الصهيوني بخلق الفتن المذهبية وسبل ومواجهته
أسامة العرب
نحن في لبنان لم نعرف الفتنة المذهبية، ولو أننا عانينا في السابق من حرب أهلية طائفية مقيتة، واقتتال مرير دام خمس عشرة سنة، ولكننا ما عرفنا التمايز بين سني وشيعي في أيّ يوم من الأيام! وبالتالي فلا غرو بأنّ هذا الانقسام هو من صنع الخارج الذي بات يتحكّم بساحتنا الداخلية، فيغذّيه ويحرّكه ويؤجّجه، وهو نفسه الذي كان وراء الانقسامات المدمّرة في العراق. فمنذ الاحتلال الأميركي عام 2003 تفجّرت الفتنة المذهبية والاثنية التي تُدمي القلوب وتنذر بتفجير التناقضات الفئوية التي راحت تتمدّد في شتى أرجاء المنطقة.
فمشروع الفتنة بين سني وشيعي الجاري العمل على تعميمه اليوم في سورية ولبنان وسائر أرجاء المنطقة، ما هو إلا امتداد لمكيدة الفتنة في العراق ورافد لها، فإذا ما انفجرت الفتنة المذهبية فلن يسلم من تداعياتها قطر من الأقطار العربية أو الإسلامية، وستتفتّت إلى كيانات مذهبية وطائفية وإثنية ضعيفة تقع في مجملها تحت الهيمنة الصهيونية، من حيث إنّ الكيان الصهيوني سيبقى الكيان الوحيد المهيمن على المنطقة برمّتها، وسيُقِرّ حينها مشروع «يهودية الدولة»، وسيباشر حملاته الاستيطانية الواسعة النطاق في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وجنوبَي لبنان وسورية، وسيقيم الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، خصوصاً بعدما أصبحت أساسات المسجد منهكة كلياً، بسبب الحفريات اليومية الجارية أسفله، في ظلّ صمت عربي ودولي مريب.
ومن الأدلة الحية على المشروع الصهيوني التوسّعي هذا، أنّ احتلال العراق تمّ بذريعة واهية مفادها امتلاكه أسلحة دمار شامل، وعلاقته أيضاً بتنظيم «القاعدة». ولكن عندما تبيّن عدم صحة هذه المزاعم، أخذت الأبواق الصهيو ـــ أميركية تروّج لنشر الحرية والديمقراطية، فما رأينا وللأسف بعد مرور كلّ هذه السنوات إلا حرية العمليات الانتحارية وديمقراطية التحريض المذهبي والإثني. ومن ثم بتنا نسمع وللمرّة الأولى في التاريخ على لسان البعض منا، مفاضلة ما بين «إسرائيل» ودول عربية وإسلامية مجاورة، وهذا ما كنا نعتبره في السابق في منزلة الخيانة بالمنطقين القومي والإسلامي. أما عن حالنا اليوم، فكلما تعرّضنا لمكروه اتهمنا بعضنا بعضاً، وقبل أن يُنجز أيّ تحقيق بالأمر، من دون أي اشتباه بالعدو الصهيوني! أيّ أنّ مشروع المؤامرة بدأ يتمدّد من العراق إلى سورية ولبنان شيئاً فشيئاً، لا سيما بعدما بتنا نسمع على لسان الإدارة الأميركية علناً مشاريع تقسيم عنصرية، ودويلات يجري العمل على تحضيرها وفرضها بالقوة على الشعبين العراقي والسوري، من دون الأخذ بعين الاعتبار إرادتهما بتقرير مصيرهما بأنفسهما، وذلك بالاستناد إلى منطق الحجج الواهية الصهيو ـــ أميركية نفسه، والتي مفادها محاربة تنظيم القاعدة ونشر الديمقراطيات والحريات.
ولكن الفتنة إذا انتشرت اليوم في سورية، فإنها سوف تتمدّد بالتأكيد إلى لبنان، وستؤدّي لتقسيمنا جميعاً إلى دويلات عنصرية متصارعة، لا أمل لها بالخروج من حروبها الدموية إلا بالاستسلام لمشيئة العدو الصهيوني، والرضوخ لنفوذه الدولي والإقليمي في المنطقة. ونحن ندرك أنّ المؤامرة أكبر من حجمنا بكثير، والمتآمرين قادرون على التعطيل، ولهذا عَقُمت كلّ محاولات وأد الفتن السابقة، واستفحل الإرهاب في أوساطنا الداخلية، وبات يهدّدنا فعلياً. إنما هذا الواقع يجب ألا يُحبط عزيمتنا، فمعرفتنا مخطط عدونا الصهيوني تقينا شروره الماحقة، وتمدّنا بالقدر الحيوي اللازم من المناعة التي تمكننا من التعايش مع أزمة «الشرق الأوسط»، ريثما نتوصل إلى حلول جذرية لقضايانا. ونحن نعي أنّ الحلول من المستحيل أن تتحقق إلا بإرادة دولية، ولذلك فإننا نثمّن جهود وزارتَي الخارجية في روسيا وإيران اللتين تسعيان لإقامة علاقات الودّ والتعاون الوثيق ما بين إيران والدول العربية والخليجية المجاورة، انطلاقاً من مبادئ إيران الأخلاقية الراسخة على تحقيق الوحدة الإسلامية اللامذهبية واللاعنصرية.
فنحن ما زلنا متأكدين بأنّ لنا القدرة اللازمة لدحر أيّ عدوان أجنبي عن بلادنا، لا سيما أنّ الجميع يعلم بأنّ من يُعانق الأفعى الصهيو ـــ أميركية سوف يكون من دون أدنى شك أوّل من يُلدَغ منها، إذ إنّها لا ترى من «الشرق الأوسط» برمّته سوى أمرين: كيف تسلب نفط الدول الشرق أوسطية، ومن ثم كيف تحقق ما يأمر إرادة العدو الصهيوني، بسبب سيطرة اللجنة الأميركية ـــ «الإسرائيلية» على سياساتها الخارجية كلياً. وبالتالي، فإنّ سعينا لتوحيد العرب والمسلمين على منطق مواجهة الأطماع «الإسرائيلية»، واجتماعنا على القيم القومية والدينية السامية المشتركة التي تحتقر العنصرية الطائفية والمذهبية والإثنية، وحدهما القادران على إشاعة أجواء الاطمئنان إلى مستقبلنا ومستقبل أولادنا، لا بل والى سلامة أوطاننا ووحدتنا الداخلية أيضاً، كما أنّ عملنا على جمع الأمة على أيّ مشروع وحدة غير عنصري، هو السبيل الوحيد لتحقيق أيّ انتصار حاسم على العدو الصهيوني.
ونحن قادرون على أن نتوصل إلى ذلك في ظلّ روابط الثقافة والمصالح المتبادلة والمشتركة في ما بيننا، إلا أنّ ما ينقصنا هو الانفتاح على أجواء النقاشات البناءة، وإبداء المزيد من الاهتمام بالقضايا الرئيسية والمصيرية للأمة.
وعلى هذه الخلفية، فإننا نبادر إلى الدعوة لوجوب نبذ الحماقات التي تدعو للتمايز بين العرب والأكراد والفرس والأتراك، وما بين السنة والشيعة والدروز والعلويين، وما بين المسيحيين والمسلمين. فما أعظم القيم الدينية والقومية والإنسانية القائمة على أساس المحبة والرحمة والأخوة والانفتاح والصدق والعفو والتسامح، وما أحقر العصبيات التي لا تتورّع عن ارتكاب المعاصي واستخدام العنف وسيلة للتعبير ومناصبة العداء للآخرين، ولذلك فإننا نؤكد أننا في هذا الصدام البائس والتمايز العنصري اللاأخلاقي، لسنا من هؤلاء في شيء. ألم يئن لنا الأوان بعد، لأن نضع أيدينا بأيدي بعضنا بعضاً فلا نتورّط بمماحكات وسياسات أنانية دنيئة تعبث بعالمنا العربي والإسلامي دماراً وفساداً وإرهاباً، ولكي ننطلق إلى آفاق وآمال جديدة نراهن فيها على وضع استراتيجية مشتركة لحماية سلمنا الأهلي واستقرارنا الداخلي ولمواجهة الأطماع الصهيو ـــ أميركية معاً، فمتى يتحقق ذلك الحلم التاريخي بتحقيق هذا النوع من التعاون والوحدة؟
محام، نائب رئيس
الصندوق المركزي للمهجَّرين سابقاً