صحافة عبرية
كتب شلومو أفنيري في صحيفة «هاآرتس» العبرية: قرار مؤتمر «حزب العمل» تأييد اقتراح اسحق هرتزوغ لكسر الجمود السياسي، خطوة هامة للتغلب على الجمود الفكري الذي يميّز منذ سنين أحزاب الوسط واليسار في «إسرائيل». منذ أكثر من عشرين سنة بعد اتفاقات أوسلو، التي شكلت اختراقاً تاريخياً في العلاقات بين «إسرائيل» والفلسطينيين. حان الوقت للاعتراف بأنّ الطريق إلى الحل الوسط التاريخي بين الحركتين الوطنيتين طويل ويستوجب مراحل انتقالية، في بعضها أحادي الجانب. ليس سهلاً للمعسكر السياسي الذي خطّ على علمه الإيمان بأن مجرد العودة إلى طاولة المفاوضات ستضمن تحقيق الأهداف السياسية المرغوب فيها، أن يفهم أن الواقع أكثر تركيباً من ذلك وأنّ حلّ الدولتين للشعبين ـ بقدر ما هو الطريق الوحيد لضمان مستقبل الصهيونية في المدى البعيد ـ لن يتحقق دفعة واحدة.
مفهوم لماذا يعارض اليمين هذه الاقتراحات. مفهوم أقل الاعتراض على خطط هرتزوغ من الجانب اليساري للخريطة السياسية. فأمس فقط، اتّهم اليسار المتطرّف «حزب العمل» في أنه «ليكود 2»: كيف يمكن الاعتراض على خطوات تقترح صراحة تغيير الاتجاه بدلاً من الوضع الراهن الحالي ولهذا فإن حكومة «الليكود» تشجبها بكل لسان؟
أحد الاقتراحات الأكثر عملية التي طرحها هرتزوغ ـ والذي يمكن أن يطبق حتى تحت الحكومة الحالية ـ محاولة نقل الأحياء الشمالية لشرق القدس لسيطرة السلطة الفلسطينية. أما الاعتراض على هذه الخطوات من جانب أجزاء من اليسار فيشهد على أن أصحاب المواقف التي تبدو ليبرالية ويسارية يعانون أحياناً من العمى السياسي لا بلّ الأخلاقي أيضاً.
مثلما الحال دوماً، فإن قليلاً من التاريخ والسياق لن يضر. إحدى الخطوات المتهورة وعديمة الحكمة التي اتخذتها «إسرائيل» فور حرب الايام الستة كانت تعريف واسع للمجال الذي طبق عليه القانون والقضاء «الإسرائيليين» في القدس بتعبير بسيط: ضمّ شرق القدس الأردني. معقول ومفهوم بأنه لم تنطلق تقريباً في حينه في «إسرائيل» أصوات عارضت هذا الضمّ ولكنه تضمّن ليس فقط البلدة القديمة وأحياء كالشيخ جراح، تشرف على الطريق إلى جبل المشارف، بل سلسلة طويلة من القرى شمال القدس. وضمّ هذا الاصبع الذي يبرز من قلب القدس شمالاً، نبع من الرغبة لضمّ المطار الأردني في قلنديا «مطار عطروت» في نطاق دولة «إسرائيل»، وجعله مطاراً دولياً للقدس. ولكن بضمّ الأرض ينضمّ أيضاً السكان الذين يسكنون فيها، ونتيجة لذلك أصبح بضع عشرات الالاف الآخرين من الفلسطينيين مقيمين «إسرائيليين» يحملون بطاقات هوية «إسرائيلية». كل عرب شرق القدس ليسوا مواطنين بل مقيمين، ولكن مكانة الاقامة تمنحهم سلسلة طويلة من الحقوق، أولاً وقبل كل شيء في مجال التأمين الوطني.
لقد فشلت فكرة تحويل المطار الصغير في قلنديا إلى مطار دولي، سواء بسبب ظروف الأرض أم لأنه لم تكن أيّ دولة مستعدة لأن تعترف بالسيطرة «الإسرائيلية» عليه واستقبال الرحلات الجوية الدولية المنطلقة منه. ومع ذلك، فعلى مدى سنوات عدّة، اعتبر الحجم الواسع للأرض التي ضُمّت لـ«إسرائيل» ظاهرة هامشية ولم تنل اهتماماً عاماً.
أما اليوم، فالواقع مختلف. القرى شمال القدس، والتي لم تكن أبداً جزءاً من نسيجها المديني، أصبحت أحياء سكنية مكتظة، سواء بسبب التكاثر الطبيعي أم لأنه انتقل اليها عدد من الفلسطينيين من مناطق الضفة الغربية التي لم تضمّ. ويسكن فيها اليوم نحو 200 ألف فلسطيني نحو نصف السكان الفلسطينيين في الاراضي البلدية للقدس .
من ناحية القانون «الإسرائيلي»، فإنّ هذه أرض «إسرائيلية» بكل معنى الكلمة، ولكن الجدار الأمني، الذي بُني من دون مراعاة المكانة القانونية للأرض، قطعت معظمها عن القدس وجعلتها عملياً أرضاً سائبة.
من لا يعرف القدس عليه أن يعرف هذا بالشكل الأكثر وضوحاً: بين القدس ورام الله الآن أرض سائبة قلنديا وكفرعقب ، ليست تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، ولكن السيطرة «الإسرائيلية» فيها هي وهم تام. رغم إعلانات البلدية، فإنها لا توفر الخدمات لـ200 ألف من السكان هم رسمياً سكان القدس. وليست شاحنات القمامة التابعة للبلدية ومراقبيها فقط لا يدخلون إلى هذه المنطقة بل الشرطة والجيش ايضاً. معظم مواطني «إسرائيل» لا يعرفون أنّ هناك ثقباً أسود كهذا بيننا وبين مناطق السلطة ـ وبالتأكيد ليسوا على وعي بأنّ المواطن «الإسرائيلي» اليهودي الذي يدخل إلى هذه المنطقة يعرّض حياته للخطر، حتى وإن كانت هذه المنطقة رسمياً تحت السيادة «الإسرائيلية».
لا سبب يجعلنا لاعتبارات جنون العظمة غير الواقعية لمن رسموا حدود القدس في 1967 أن نواصل الوضع الحالي. فهو لا يضيف أمناً إلى «إسرائيل» بل العكس ويبقي عدداً كبيراً من السكان بلا أيّ حماية وبلا سيطرة ناجعة. وبالتأكيد من يقلق على الحفاظ على الغالبية اليهودية في القدس عليه أن يؤيد كلّ فكرة للانفصال عن هذه المنطقة وسكانها والسماح للسكان الفلسطينيين هناك بأن يعيشوا تحت حكم السلطة الفلسطينية.
من الصعب أن نفهم المعارضين من الجانب اليساري لفكرة الانفصال عن هذه المناطق، فالحديث يدور في معظم الحالات عن أشخاصت يعارضون ضمّ شرق القدس ويؤيدون الانسحاب «الإسرائيلي» من معظم أراضي الضفة إن لم يكن منها كلها. فبِاسم أيّ مبدأ يعارضون خطوة تحرّر نحو ربع مليون فلسطيني من الضمّ الذي فرضته عليهم «إسرائيل» في 1967 ويسمح لهم بأن يعيشوا بهذا الشكل أو ذاك تحت السيطرة الفلسطينية منذ اليوم، بدلاً من أن يضطروا لانتظار الحلّ الشامل الذي من الواضح للجميع أنه بعيد؟
السبب لهذا الموقف الغريب من بعض دوائر اليسار مفهوم، ولكنه مثير للشفقة: فالالتصاق بالحل الشامل الخيالي هنا والان يجعلهم يؤيدون الوضع الراهن. مثلما في حالات أخرى، ما يعتبر الحل الافضل والأكثر تطوّراً هو عدو ما هو ممكن.
إن حقيقة أن رئيس الوزراء تحدث في هذا الاتجاه ـ بخلاف رأي رئيس بلدية القدس الذي لديه اعتبارات أخرى ـ تبرز إمكانية أن يكون هذا الموضوع من المحتمل تعاون بين الحكومة والمعارضة الرئيسة. الحل بالطبع ليس بسيطاً: فمن الصعب أن نرى السلطة الفلسطينية تؤيده لماذا التسهيل على إسرائيل؟ كما ستكون حاجة لضمان الحقوق التي راكمها سكان هذه المنطقة على مدى السنين في التأمين الوطني. كل هذا ليس بسيطاً. ولكن حتى لو كان هذا صعباً ومعقداً، فهو ممكن.
يدور الحديث عن مصلحة «إسرائيلية» واضحة وإعطاء إمكانية لمئات آلاف الفلسطينيين للتحرّر من السيطرة «الإسرائيلية» المباشرة التي فرضت عليهم. إذا تمت هذه الخطوة، فهي ستوضح أنّ المصالح «الإسرائيلية» والفلسطينية ليست بالضرورة متعارضة الواحدة مع الأخرى، وأنه يمكن البحث عن الوسائل لالتقائها، حتى لو كان هذا صعباً. أما معارضة أجزاء في اليمين وأجزاء في اليسار هذه الخطوة، فتثبت أن نقطة التوازن توجد بين المتحمّسين الايديولوجيين في الطرفين المختلفين من الخريطة السياسية. من يسعى إلى الوصول لحلول ملزمة، ليس عليه فقط أن يكرر الشعارات التي تبدو جميلة، بل أن يواجه أيضاً بشكل براغماتي وواقعي الواقع الذي يكون أحياناً مركّباً ومليئاً بالتناقضات.