رفقاً بلبنان… احموه من الانفجار

د. سلوى الخليل الأمين

المنتقمون، الحاقدون، الحاملون ظلامة النفس الأمّارة بالسوء هم الذين لم يقرأوا كتاب الله وادّعوا السّير على دينه الحنيف.

فالإسلام يا سادة العصر ليس شعائر تكتب على أفواه البنادق ضدّ الفقراء والمعوزين، الذين لم ينعموا بدفء القصور وسيولة الجيوب. الإسلام دين الحقّ والخير والفلاح والرحمة، بل دين الأخلاق بما تحمل من مضامين تنظِّم سلوكيات بني البشر بعضهم مع البعض الآخر. لهذا كانت الوصايا واضحة ومفهومة لمن يريد أن يفهم، ومقروءة لمن يُحسن القراءة، ومنها قول الرسول الأكرم محمد بن عبد الله: إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق.

فأين مكارم الأخلاق حين يتمُّ الانتقام من عمّال هاجروا من وطنهم لبنان إلى ديار ظنّوها الملجأ الأمين الذي يقيهم عوز الدهور وإرباكاتها المتنقلة والحاجة إلى لقمة العيش النظيفة التي تسدّ الرمق والناتجة من عرق الجبين.

حين هاجروا كانت وجهتهم البلد الشقيق الذي اعتبروه مقراً آمناً يحتضنهم في أوقات الشدة الناتجة عن تقلب الظروف السياسية التي قلبت ظهر المجن لكلّ لبناني، بعد أن كان آمناً في وطنه وأرضه وقرب عياله، لهذا قصدوا موطن الرسالة العظيمة، الذي ظنوه عوناً لهم في السراء والضراء، وإذ في ليلة ليلاء، تتشابك المسارات السياسية بين الخضوع للغرب وسياساته القائمة على التفرقة الإتنية والعرقية وشدّ العصب المذهبي، إضافة إلى تلقّي الإملاءات الخارجية التي تدقّ الإسفين بين الأخ وأخيه دون رحمة أو شفقة، وترسم حالات الاحتكار والاستعباد واستلاب حرية الفرد وقناعاته وآرائه التعبيرية ومساحة حركته وتفكيره وانتمائه السياسي والوطني وحتى العربي الحامل قضية الوطن السليب فلسطين صموداً وتصدياً ومقاومة، إضافة إلى إسقاط عناوين الديمقراطية التي هي حقّ لكلّ مواطن أو مهاجر، كما قضايا العدالة الاجتماعية التي تحتاجها الشعوب قاطبة، من خلال حقها الإنساني بالتمتع بالأمن والأمان في ظلّ حكم مستقرّ وجيش قوي يردّ كيد المعتدي ويحمي المواطن في أرضه وماله وعائلته.

هنا تطفو الآيات البيّنات حين ترتفع البيانات السياسية المُنتشرة كفقاقيع الصابون في الوطن على أفواه حكام لم يتقنوا علوم السياسة، ولم يدرسوها في الجامعات، ولا في بيوت سياسية أو في حلقات حزبية وطنية وقومية تشدّهم إلى الفعل القويم، بل أخذوها بالتواتر ابناً عن أب وليس عن جدّ لمجرد أنّ الإرث المالي يجب أن يتبعه إرث سلطوي، مدعوم بسلطة خارجية متسلطة من جراء ثروات تبعثرها ذات اليمين وذات الشمال على من ينفذ الأمر بحذافيره، إرضاء لطموحها المرفوع على أسنّة الحراب الخاضعة للسياسات الأميركو ـ صهيونية، التي ترفع لهم العصا ساعة تشاء دون اعتبار لمثاقيل الثروات التي تُصرف على الحروب المتنقلة عوضاً عن صرفها على محاربة الفقر والمرض والأُميّة.

هذا المال الملعون الذي أصبح لعنة العصر في هذا الزمان المطعّم بالمرارة، بدأ يفعل فعله في تغيير القيم السياسية والمبادئ الوطنية التي تطفو على السطح بحلل مختلفة حين يشحُّ العطاء وتتقلص الهبات أو تتوقف لسبب ما، دون أيّ اعتبار لما يُرضي الله وشرائعه السماوية التي هي دستور الحكم في ديارهم، بل جعلوا أنفسهم رعاة للدين الإسلامي دون غيرهم من أهل المذاهب الإسلامية الأخرى أو المجاورة، مع العلم أنّ قبلة المسلمين في مكة واحدة موحَّدة، وعبارة «بسم الله الرحمن الرحيم» واحدة، والصلاة خمس فرائض لجميع المذاهب الإسلامية واحدة موحّدة أيضاً، والحجّ واحد والزكاة فرض واجب على كلّ مسلم ومسلمة. فهل يجوز بعد كلّ هذا، طرد المهاجرين اللبنانيين الذين قصدوا دول الخليج الشقيقة، خصوصاً السعودية، لمجرد أنّ أهل السياسة في لبنان، فريقان مختلفان في ما بينهما ولكلّ خط سيره ومساره؟ هنا ربما يجوز تذكيرهم بما ورد في كتاب الله المُنزل، أيّ في القرآن الكريم: «ولا تزِر وازرة وزر أخرى» سورة الإسراء الآية 15 .

ألا يحقّ لكلّ لبناني الاعتراض على معاقبة المواطن اللبناني المهاجر، وهل يجوز الانتقام منه وجعله قميص عثمان يلوّح بطرده من عمله عند كلّ خلاف بين فرقاء السياسة على الساحة اللبنانية؟ هنا يحقّ لكلّ لبناني أن يتساءل: أين سلوكيات الإسلام التي تدعو إلى احترام صلة الرحم وكلّ مسلم أخ للمسلم الآخر، وصلة التقارب والتضامن والرحمة بينهما قائمة على صلة اللغة والدم والدين، مع كلّ ما يتبع ذلك من تاريخ وحضارة ووطن واحد، حدوده مرسومة من المحيط إلى الخليج، وليس عبر تقسيمات جغرافية أرادها المستعمر يوماً، عبر معاهدة «سايكس بيكو»، دولاً متفرّقة ومتنازعة، ولتاريخه ما زال يدسّ سمومه بين الأشقاء، عناوين سياسية وعرقية ومذهبية تفتيتية وشعارات تقسيمية، وفبركات إعلامية مزيّفة، يحرّكها حكام وسياسيون جعلوا الغرب قبلتهم ومرجعيتهم، وارتضوا به مستعمراً بأثواب جديدة وأساليب مُبتكرة ترسم الشرّ لأمّة العرب، التي قيل فيها: إنها أحسن أمة أخرجت إلى العالمين، في حين أنّ القرار الأعلى هو: «نحاربهم بأن نحرّضهم على بعضهم البعض، فنجعلهم يتقاتلون ويسفكون دماء بعضهم البعض».

أليس من عجائب الزمان أن يتمّ رسم الصورة البشعة لأنفسنا في عصر القرية الكونية والعالم المفتوح؟ أليس لدى القيمين على السلطة رؤية واضحة توحِّد المسارات والآراء بعيداً عن التجاذبات السياسية المُرتهنة للخارج قبل أن يبتلع الطوفان الجميع؟ كيف لمن يدّعي الإسلام أن يقيم الصلاة باسم الله الرحمن الرحيم، وفي الوقت نفسه، لا يتقن فعل الصراط المستقيم وهدي الله وإرشادته وتعاليمه، ولا يتقن التقيّد بموازين الشرع الحنيف ومضامينه، كي يكون مستحقاً لقب مسلم لله تعالى؟ أليس غريبا أن يتمّ التعدّي على الشعوب العربية المسلمة والفقيرة كاليمن وسورية مثلاً، في حين يقبع العدو الصهيوني في أرض عربية هي مهد الرسل والأنبياء؟ أليس تبديد ثروات البلاد التي منحها الله لعباده جميعاً، كي تكون عوناً لهم ولمن حولهم من اخوة، فعلاً يحاسب عليه في الدنيا قبل الآخرة؟ ألا يستحق هذا الشعب اللبناني المغلوب على أمره في الداخل، أن ينعم بما يجود به من هاجر من أبنائه واغترب من أجل تأمين قوت عياله، علماً بأنّ «قطع الأرزاق من قطع الأعناق»؟ أليس الحرمان الاقتصادي والاجتماعي بقادر على خلخلة كلّ الأنظمة، مهما اشتدّت قوّتها وتعاظم شأوها، حين فتحت مسارات العولمة طرق التواصل بين بني البشر أجمعين على مصراعيها؟

هل يدري حكّام المملكة السعودية أنّ الهبة المالية المخصصة للجيش اللبناني قد أسعدت كلّ اللبنانيين الذين لم يرشفوا منها بعضاً من ملايين حُجزت لجيوب البعض ممّن يعتبرون أنهم حماة الحقوق التي تخصّ المملكة، علماً أنّ الجهل المستشري في التعامل مع حقوق الناس هو ما يورّط السعودية في ما لا تُحمد عقباه، خصوصاً أنّ معظم الناس يعلم أنّ المملكة دولة تطبّق الشريعة الإسلامية السمحة، التي إذا عدنا إلى مضامينها نجد القول الكريم: «وأما السائل فلا تنهر وأمّا بنعمة ربك فحدث» سورة الضحى الآية 11 . المقصود بهذه الآية الكريمة كما يقول المفسِّرون: «النعمة شكرها يكون بأمور ثلاثة: أولاً الاعتراف بها باطناً وأنها من الله وفضله، ثانياً: التحدّث بها ظاهراً باللسان، والأمر الثالث: صرفها في مرضاة من أنعم أيّ الله». لهذا فإنّ الهبة المالية السعودية للجيش اللبناني فيها مرضاة لله الذي أنعم على المملكة بثروات النفط التي تُسفح فيما لا تحمد عقباه.

إذاً، أين نحن اليوم من دستور قائم على مرضاة الله واتّباع كتابه وسنة رسوله محمد بن عبدالله؟ وأين نحن من تعميم ما أنعم الله به من ثروات نفطية وغازية على المحتاجين من الدول الشقيقة وفي طليعتهم لبنان الذي يحتاج جيشه إلى السلاح الحديث والمتطوّر من أجل ردع العدو الصهيوني الذي احتلّ فلسطين والقدس الشريف، ومن أجل محاربة الإرهابيين التكفيريين الذين يتاجرون بالرسالة المحمدية ويشوّهون الإسلام ويكفّرون كلّ من اعترض هويتهم الإرهابية من المسيحيين والشيعة أبناء الأرض الواحدة، علماً أنّ الله أمر باحترام أهل الكتاب على اختلاف دياناتهم ومشاربهم وأهوائهم، بقوله: «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون» سورة المائدة الآية 82 .

بعد كلّ ما جرى ويجري، ويُنذر بأبشع العواقب، أليس من الأسلم العودة إلى العقل وامتصاص كلّ خطر قد يقع فيه لبنان، ويبدو أنه بات قريباً جداً، والتفكير بعقلانية بعيدة عن الحقد والتشنّج والكيدية واستنفار الطاقات الكلامية البشعة، حيث الحكمة تقتضي النظر إلى المستقبل بتسامح أخلاقي وثقافي سياسي عالي المستوى… كي يسلّم لبنان، الذي يكنز العديد من الطاقات المبدعة القادرة على التغيير الإيجابي المطلوب، من الغرق، فرفقاً به يا أركان السلطة… احموه من الانفجار.

رئيسة ديوان أهل القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى