استراتيجية أميركا الكبرى في العراق وسورية والمنطقة 3
ويليام بوك
بدت الحرب سهلة. هكذا تبدو الحروب لمن يريد البدء بها. لكن كما حذّر كلاوزيفيت: «الحروب دائماً غير متوقعة. بل إنها تغيّر من يحارب فيها»، فحالما يُطلق العنان لـ«كلاب الحرب»، غالباً ما تصبح مسعورة، تهاجم الجيد كما السيء، الكبار والأطفال، المواطنين ومؤسساتهم. وهذا كلّه ينتج الفوضى. وقد بدت نتائج هذه الفوضى واضحة في العراق. فبعد إصرار صدّام ـ الحاكم الديكتاتوري ـ على التفرّد بالسلطة السياسية وقيامه بالكثير من الأمور المريعة، عملت على رغم ذلك، مجالات عدّة في نظامه بطريقة بنّاءة. وأفاد كثيراً من دخل العراق بعد إزالة السيطرة البريطانية عليه، في عمليات التطوير الاجتماعية والاقتصادية. وكثرت المدارس والجامعات والمستشفيات والمصانع والمسارح والمتاحف وغدا التعليم مجانياً، استفاد المواطنون من أفضل برامج الخدمات الصحية اكتملت مشاريع التوظيف لدرجة أن بعض المواطنين وُجّهوا إلى العمل في الحقول العراقية. تحوّل العراق إلى دولة علمانية أصبحت فيها المرأة أكثر حرية مما هي عليه في دول العالم. صحيح، لقد قمع صدّام الأكراد والشيعة، لكننا لا نعترض كثيراً على مثل هذه الممارسات ضدّ الأقليات في آسيا وأفريقيا وأجزاء من أوروبا وأميركا اللاتينية.
لم يكن ما فعله صدّام في العراق، خطيئة. لكن ما لم تستطع الولايات المتحدة مسامحته عليه، إحباطه قضيتين: النفط الكويتي والسعودي، وعلاقة «إسرائيل» مع الفلسطينيين وهيمنتها الإقليمية. كان من الممكن تجنّب التورّط في الحرب عن طريق الدبلوماسية البارعة، التي تقبّلتها إدارة جورج بوش الإبن والمحافظون الجدد بلهفة في العام 2003. فقد أقنعت سياستهم العراقيين أنه ما من شيء سوف يقف في طريقهم. كانوا محقين. فنحن من أطلقنا الانتقادات.
لم ندمّر نظام صدّام فقط من خلال الانتقادات. فقد قتلنا حتماً المئات لا بل الآلاف من العراقيين، ونعتقد أن استخدامنا قذائف مدفعية اليورانيوم قد سبّب في زيادة الإصابة بالأمراض السرطانية ـ بين الأحياء ـ مقدار سبعة أضعاف نمتلك قنابل وقذائف وإطلاق ما يقارب 1000 صاروخ «كروز»، مدمّرين غالبية البنى التحتية ومتسبّبين بتشريد ملايين الناس وخسارتهم بيوتهم وأعمالهم، وحُرموا الإفادة من الطبابة والتعليم. وأدخلناهم في الفوضى التي تلت عملية الغزو، هشاشة «العِقد الإجتماعي» المرتبط بالسكان. فقد أرسى الإرهاب قواعده. اختفى الأمل في البؤس. وقد أُفرِغت أحياء كاملة من جرّاء «التطهير العِرقي» الذي مارسه الرجال المسلّحون العنيفون. عاد الجيران السابقون أعداء مميتين. وأظهرت الحكومة التي قمنا بتثبيتها في مقابل نظام صدّام أنها تسير عكس التحرّر المدني.
حذّرنا العهد القديم من هذه الزوبعة، التي هي نتيجة حتمية لرياح الحرب. وهذا ما نشهده اليوم في العراق. وما يحاول الرئيس أوباما أن يؤكده للرأي العام، غير أن تأكيداته هذه لا تعدو أن تكون أكثر من صفير في مهبّ الريح.
لكن الصفير في مهبّ الرياح، يبقى أقلّ خطورة من تفسير أوباما الخطير لوضع 300 من «المسشارين» في العراق، والذين سمعنا عنهم الكثير من قبل! ومن هم في مثل سننّا لا بدّ أن يتذكروا أن الرئيس كينيدي كانت له البداية نفسها. لكنه كان ـ ومن دون نقاش ـ أكثر واقعية بقليل، وقد أرسل هذه «القوات الخاصة» المسمّاة بـ«القبعات الخضراء» ستّ مرات إلى فييتنام. وكان كلّ من كينيدي وأوباما قد أقسما على عدم إرسال هذه القوات، لكن أوباما باستطاعته على الأقلّ الادّعاء أنه طالب بالائتمان كونه أكثر مصداقية: فـ«مستشارونا غير جاهزين للمكافحة».
إذاً، وبدلاً من الشعور بالأمان أو حتى اعتماد استراتيجية معقولة وواضحة تقريباً حول كيفية تحقيق ذلك، نجد أنفسنا في مواجهة حالة من الفوضى:
سنبدأ في الغرب ثم نتحرك شرقًا: ففي ليبيا، دمّرنا نظام القذافي، وأطلقنا العنان للقوى التي مزّقت البلاد والتي امتدّ تأثيرها إلى عدم استقرار الأوضاع حتى في أفريقيا الوسطى. في مصر، «انقلاب عدم الانقلاب» الذي قاده السيسي والذي لم ينتج أفكاراً جديدة حول ما يمكن أن يُقدّمه هذا النظام للشعب سوى إصدار الحكم بإعدام المئات من القادة الدينيين والذي أظهر فيه جهاراً معارضته لنا. في فلسطين المحتلة، تستمرّ دولة «إسرائيل» بتهجير الفلسطينيين والزيادة من حالات بؤسهم وغضبهم، بينما يتدخل الجناح اليميني المتطرّف في واشنطن في كلّ كبيرة وصغيرة كما تفعل أميركا «المتبرّعة» بكلّ ما سبق وذكرناه. علاقاتنا لم تكن يوماً أفضل. في سورية، انخرطنا أساساً في تسليح الأفراد أنفسهم الذين سيعلّقهم النظام المصري على أعواد المشانق والذين يفجرون العراق اليوم، ودرّبناهم ودعمناهم. وفي العراق أيضًا، سوف ننزلق قريبًا في النظام الذي قمنا بتثبيته والذي هو الحليف الأقرب للنظامين السوري والإيراني اللذين نحاول تدميرهما منذ سنوات كذلك، نحن نبدو في إيران واقفين عند نقطة رئيسة عكسية لسياستنا المتّبعة، محاولين تدمير حكومتها، ونطلب مساعدتها لهزيمة المتمرّدين في العراق. وهكذا وهكذا.
وباعتراف الجميع، فإننا لم يسبق لنا أن تخبطنا في مثل هذه الفوضى من قبل في سياساتنا المتّبعة في الشرق الأوسط. كانت مهماتنا سهلة نسبياً. لذا، ربما أفعالنا هذه هي على جانب من الدهاء والحذق والمكر السياسي، لدرجة أن عقلي البسيط والمتواضع عاجزٌ عن إدراكه. هذا ما أتمناه على الأقلّ. لكن حتى لو كان الأمر كذلك، فما هو بيت القصيد، كما يقول رجال الأعمال، كي نحقق أهداف أمننا؟
اسمحوا لي بجوابٍ شخصي: عندما سافرتُ للمرة الأولى عبر صحارى ومزارع ومدن وقرى في أفريقيا وآسيا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، رحّبوا بي جميعهم في بيوتهم وأطعموني واهتموا بي. أما اليوم، فلن أجازف في إعادة الكرّة الى هناك خوفاً من أن تتمّ تصفيتي في المناطق الكثيرة المتضرّرة من السياسة الأميركية.
فلْنتحضّر لمواجهة الانتقادات والاتهامات العنيفة… لكن من أين سنبدأ؟
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق