«داعش» الذي في داخلنا!
نحتاج إلى تجديد حقيقي للخطاب الديني لدى كافة قوى التيار الإسلامي التي تمثل النبع الأكبر للفكر «الداعشي»
لأنّ «الفتوى» أقوى من «الرصاصة» نحتاج إلى تجفيف منابع العنف داخل الفتاوى التاريخية لأنها السلاح الأمضى لجماعات الإرهاب من سورية إلى سرت في ليبيا مروراً بسيناء في مصر!
د. رفعت سيد أحمد
نعتقد جازمين أنّ الفتوى الدينية التي تبرّر القتل أو الحرق أو الذبح بالسيف، باسم الدين، أخطر من الرصاصة أو القنبلة لأنها تغسل عقل الإرهابي، خاصة إذا كان «داعشياً» سلفياً، كما هي حالهم في سيناء المصرية وفي سورية والعراق وليبيا.
إنّ الدعوة الجادة إلى تطوير وتجديد الخطاب الديني ينبغي لها أن تبدأ من الجذور، من الفتاوى القديمة خاصة تلك التي أفرزتها عصور غير عصورنا وفقهاء من غير زماننا كانت لهم رؤى خاصة بزمانهم وتحدياته، ومن هؤلاء يأتي ابن تيمية وابن عبد الوهاب اللذين لا تزال فتاويهما تُدرَّس وتقدَّس من القداسة لدى التيارات السلفية المصرية على اختلافها، رغم أنها فتاوى يصبّ معظمها في فقه استحلال قتل وتكفير وإرهاب الناس. إنّ العقل والمصلحة العليا لمصر ولغالب بلاد المنطقة التي ابتليت بـ«داعش» هو العمل على فتح ملف الجذور الفكرية والفقهية الإرهابية في فكر «الدواعش» وأساتذتهم من السلفيين والوهابيين.
إنّ العنف الذي تمارسه بعض الجماعات التي تُنسب للإسلام، إنما هو إفراز لفلسفة معينة تتبناها هذه الجماعات، وثمرة لفقه خاص له وجهته ومفاهيمه وأدلته التي تستند إليها هذه الفئة من الناس، ومن نظر إلى جماعات العنف القائمة اليوم في عالمنا العربي والإسلامي مثل «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما سيجد أنّ لها فلسفتها ووجهة نظرها وفقهها الذي تدّعيه لنفسها وتسنده بالأدلة من القرآن والسنة، ومن أقوال بعض العلماء، صحيح أنها تعتمد على المتشابهات وتدع المحاكمات، وتستند إلى الجزئيات وتهمل الكليات، وتتمسك بالظواهر وتغفل المقاصد، كما تغفل ما يعارض هذه الظواهر من نصوص وقواعد، وكثير ما تضع الأدلة في غير موضعها، وتخرجها عن سياقها وإطارها، ولكن، على أية حال، لها فقه مزعوم يبرِّر العنف، ويروج لدى بعض الأغرار من الشباب والسطحيين من الناس، وأساسه فقه الخوارج قديماً الذين كانوا يقرأون القرآن فلا يتجاوز حناجرهم.
بدأت هذه الجماعات ممارسة العنف داخل أوطانها أنفسها، أي العنف ضدّ المجتمعات بصفة عامة، فعلى أي أساس برّرت ذلك وأجازته من الوجهة الشرعية، من وجهة نظرها على الأقلّ؟ إنّ فقه جماعات العنف، وفي مقدمتها «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما في سيناء المصرية، يقوم على أنّ المجتمعات المعاصرة حكومات كافرة، لأنها لم تحكم بما أنزل الله، واستبدلت بشريعته المنزلة من الخالق القوانين التي وضعها المخلوق، لهذا وجب الحكم عليهم بالكفر والردّة، والخروج من الملة، ووجب قتالها حتى ترتدع، إذ كفرت كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان. ويؤكد فقه هذه الجماعات كفر المجتمعات بأمر آخر، وهو أنها توالي أعداء الله من الكفار الذين يكيدون للمسلمين، وتعادي أولياء الله من دُعاة الإسلام الذين ينادون بتحكيم شرع الله تعالى، وتضطهدهم وتؤذيهم، والله تعالى يقول: ومن يتولهم منكم فإنه منهم المائدة:51 .
إلا أنّ واقع المجتمعات المعاصرة يعارض هذه التهم بدعاوى مختلفة، منها: أنها تعلن أنّ دينها الرسمي هو الإسلام، أنها تنشىء المساجد لإقامة الصلاة، وتعين الأئمة والخطباء والمؤذنين، وتؤسّس المعاهد الدينية، والكليات الشرعية، وتوظف الواعظين ومدرسي الدين في المدارس وغيرها، وتحتفل برمضان وعيدي الفطر والأضحى، وتذيع تلاوة القرآن في الإذاعات والفضائيات، إلى غير ذلك من المظاهر الدينية، التي تثبت إسلامية الدولة بوجه من الوجوه، كما أنّ بعض دساتير هذه البلاد يعلن أنّ الشريعة مصدر رئيس أو المصدر الرئيس للتقنين، وبعضها لا يذكرها لأنّ المجتمع إسلامي بالأساس من دون الحاجة إلى وضعه في الدساتير. إذن… لا أساس لهذه الدعاوى «الداعشية» المتطرفة؟ ولا مبرّر أو سنداً دينياً أو واقعياً لها، خاصة في بلادنا مصر.
تعتمد جماعات العنف، وفي مقدمتها «داعش» في سورية وليبيا وفرعها في مصر ولاية سيناء ، على فتوى ابن تيمية في قتال كلّ فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام، كالصلاة أو الزكاة أو الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخره، وهو ما اعتمد عليه، قبل سنوات طويلة مضت، كتاب الفريضة الغائبة لجماعة الجهاد في مصر، وجعل هذه الفتوى الأساس النظري لقيام تلك الجماعة، وتسويغ أعمالها كلها. هذه الأقوال بالطبع لا حظ لها من الواقع أو النص القرآني الصحيح.
لقد نسي هؤلاء ما قاله فقهاؤنا قديماً عن إسلامية المجتمعات ورفض وحرمة التكفير بالمطلق كما يفعلون هم اليوم، وترى جماعات العنف «الداعشية» كذلك أنّ هذه المنكرات الظاهرة السافرة من الخمر والميسر والربا وسائر المحظورات الشرعية يجب أن تغير بالقوة لمن يملك القوة، وهي ترى أنها تملكها، فلا يسقط الوجوب عنها إلى التغيير باللسان بدل اليد، كما في الحديث الشهير: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، ويغفل هؤلاء الضوابط والشروط اللازمة لتغيير المُنكر بالقوة التي قرّرها القرآن، فلا يستطيع شاب أو جماعة متطرفة مثل «داعش»، ولاية سيناء مثلاً، عندما ترى منكراً منعه من تلقاء نفسها، وإلا دخل المجتمع في فوضى أخلاقية وسياسية واجتماعية، لأنّ ذلك من الممكن أن يقود إلى جعل كلّ شاب يبدأ بأبيه أو أمه أو أقاربه، فيقوم إما بتكفيرهم والخروج عليهم، وإما بتكفير كلّ المجتمع، وهذا ليس فيه من دين الله أي شيء.
ينظر بعض تلك الجماعات إلى المجتمع كله على أنه يأخذ حكم هذه الأنظمة التي والاها ورضي بها، وسكت عنها، ولم يحكم بكفرها، والقاعدة التي يزعمونها أنّ من لم يكفِّر الكافر فهو كافر! وبذلك توسَّعوا في التكفير وكفّروا الناس بالجملة، وعلى هذا لا يبالون بمن يُقتل من هؤلاء المدنيين الذين لا ناقة لهم في الحكومة ولا جمل، لأنهم كفروا فحلت دماؤهم وأموالهم كما هو حاصل اليوم في سرت بليبيا وفي الرقة بسورية وفي الموصل بالعراق حيثما يحكم «داعش»، كما يرون بالنظر إلى الأقليات غير المسلمة أنهم نقضوا العهد بعدم أدائهم للجزية، وبتأييدهم لأولئك الحُكّام المرتدّين وأنظمتهم الوضعية، ولرفضهم الشريعة الإسلامية، وبهذا لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة، وحلّ دمهم ومالهم، وبهذا استحلّوا السرقة والسلب والنهب لغير المسلمين بفهم متعسف وخاطئ لآيات القرآن التي تحقن دم كلّ إنسان مهما اختلف دينه، كما استحلوا سرقة بعض المسلمين وإهدار دماء البعض منهم من الشيوخ والكتّاب بمزاعم ما أنزل الله بها من سلطان، وهناك أمثلة على ذلك يطول شرحها، ونودّ فقط التدليل على أنّ منابع الفكر التكفيري واحدة في كلّ مكان يحلّ فيه أهل التكفير وجماعات القتل العشوائي.
كما يرى هؤلاء أنّ السياح وأمثالهم الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية، وترخيصات قانونية، والذين يعدّهم القرآن الكريم مستأمنين ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين، مستباحو الدم، لأنهم لم يأخذوا الإذن من دولة شرعية، لأنّ بلادهم نفسها محاربة للإسلام، فلا عهد بينهم وبين المسلمين، والواجب أن يُقاتل هؤلاء ويُقتلوا، فلا عصمة لدمائهم وأموالهم! وكذلك يقول هؤلاء عن الدول الغربية، أنها «كافرة محاربة للإسلام وأمته، ويجب أن نقاتلهم جميعاً حتى يُسلموا فيَسلَموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون»، رغم أنّ بعضهم يقيم في تلك الدول وقد أعطتهم حقّ الأمان أو اللجوء السياسي لمن طردوا من بلادهم الأصلية لأسباب لا تخفى وهي الضغط على الحكومات بجماعات القتل.
ولما سئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد، قال: «إنها كدورة المياه، نستخدمها للضرورة رغم نجاستها! انظروا كيف يفكرون وبؤس ما تعلّموا وهم يعتبرون شعوب البلاد الغربية كفاراً دماؤهم حلال، وأموالهم حلال للمسلمين، بنصوص الدين». ويذكرون هنا آيات وأحاديث يضعونها في غير موضعها، فإذا واجهتهم بغيرها من الآيات والأحاديث التي هي أوضح منها وأصرح، قالوا لك: هذه نسختها آية السيف!.
هذا هو المبرِّر الخطير والتاريخي الذي استخدمته هذه الجماعات بقيادة «داعش» الذي صنعته المخابرات الأميركية والفتاوى الوهابية والأموال القطرية والتركية، في ذبح الأجانب وفي العدوان على فرنسا وبعض الدول الأوروبية، وهو مبرِّر وفقه نراه يخالف صحيح الإسلام ونصوص قرآنه العظيم.
خلاصة القول : إننا في مصر تحديداً نحتاج إلى تغيير هذا الفكر من جذوره، وهذا هو دور الأزهر ومهمته التاريخية، وعليه أن يضطلع بها فوراً من دون خوف أو تردُّد أو مجاملة للسلفيين أو للدول التي تصدر إلينا فقه البداوة مع حفنة ريالات ونفط. إنّ أصحاب هذا الفكر يُكفِّرون الجميع بمن فيهم الأشاعرة التي هي عقيدة الأزهر الشريف ذاته. فهل يصمتُ الأزهر عنهم ؟ أتمنى ألا يحدث ذلك ولنبدأ…. قبل فوات الأوان!
E mail : yafafr hotmail. com