الاستراتيجية الروسية في سورية… نقاط قوتها وضعفها
المصدر: ستراتفور ترجمة وإعداد: ليلى زيدان عبد الخالق
رفضت الولايات المتحدة بشخص رئيسها باراك أوباما في تشرين الأول الماضي التدخل الروسي العسكري في سورية، معتبرةً أنّ هذا التدخل يشكل تحدّياً صارخاً لقيادة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقد صرّح أوباما في مقابلة تلفزيونية قائلاً: «يكرّس السيد بوتين قواته وجيشه بهدف الارتباط مع حليفه الوحيد في المنطقة بخيط رفيع. والحقيقة أنّ فعلته هذه إنْ دلّت على شيء، فإنما تدلّ ببساطة على أنّ استراتيجيته قد فشلت». ولم يمضِ شهران حتى كانت الوجود العسكري الروسي يتعمّق بشكل أكبر، فكان أن أضاف أوباما مؤكداً أنه «بالنظر الى حضور أفغانستان الدائم في الذاكرة، فإن التورّط في صراع أهليّ لا يبدو أنه الهدف الذي يسعى اليه بوتين».
ومن الواضخ أنّ روسيا جهدت في ضخّ الكثير من مواردها في هذا الصراع المجنون، وأنّ واشنطن تتظاهر بأنّ الخطر الذي تشكله روسيا يكاد لا يُذكر، لكنها تستمرّ في التقليل من شأن الخطر الذي تشكله روسيا كذلك تفعل سائر القوى التي لم تستطع أن تنأى بنفسها عن الصراع – بالوكالة – الذي يزداد تعقيداً بسبب وجود الجهاديين. تكمن المشكلة في أنّ الاستراتيجية الروسية تبدو غريبة بعض الشيء بالنسبة للغرب. ففي سورية، لا تدور رحى المعارك لمجرد إنفاق حليف طائش على بعض المنظمات، أو بسبب انتهاج استراتيجية بديلة لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية… بل بالنسبة لروسيا، فإنّ سورية هي أرض الفرص، وساحة للتمرّس على سياسة ضبط النفس والصبر وتحديد نقاط القوة والضعف لخصومها، واستغلالها بشكل جيد في إطار منافستها مع الغرب.
الواقعية السياسية والنموذج الروسي
يعاني الاقتصاد الروسي من انخفاض أسعار النفط، في الوقت الذي يتكثف فيه الصراع على السلطة في الكرملين، وتزداد الاضطرابات الاجتماعية على الصعيد الوطني. ومن جهة أخرى، تقوم الولايات المتحدة بتعزيز حلفائها الأوروبيين على طول امتداد الجهة الغربية لروسيا. لا يوحي هذا المشهد بسجلّ مثالي بالنسبة إلى زعيم روسي، لكن المعروف عن بوتين قدرته على ممارسة الواقعية السياسية، بكفاءة. فتاريخ موسكو يشهد لها برصيد كبير من الجرأة والحيلة اللّتين تستخدمهما في محاولة منها للتعويض عن ضعفها الواضح.
أعطى المؤرخ «جون بيو» الكثير من الجدارة في السياسية الواقعية، لسياسيّ ألمانيّ يغفل كثيرون عن معرفته، وهو «أغسطس فون روشو» الذي أشار الى تصوّرات براغماتية وراء طبيعة هذه الفلسفة السياسية. ففي أسس السياسة الواقعية، التي كتب عنها «روشو» خلال منتصف القرن التاسع عشر أيّ إبان السنوات المكوّنة للدولة الألمانية قال: «إنّ السياسة الواقعية لا تتحرّك في مستقبل ضبابي ولكن في المجال الحاضر من الرؤية، لذا، فإنه لا يمكن النظر في مهمتها على أنها تسعى إلى تحقيق المثل العليا بقدر سعيها إلى بلوغ الغايات الملموسة، بل تكتفي في بعض الأحيان بالحصول على نتائج جزئية إذا ما تعذّر تحقيق نتائج كاملة في الوقت الراهن. وفي نهاية المطاف، فإنّ الواقعية السياسية تشكّل عدوّاً رئيسياً لجميع أشكال خداع الذات».
من الواضح أنّ بوتين يطبّق نصائح «روشو» في روسيا حول الدولة التي تحكمها السياسات الواقعية. فقد ورثت روسيا الكثير من نقاط الضعف الكامنة، ناهيك عن قدرتها المحدودة على كبح الزحف الغربي نحو مقاطعاتها غير أنّ موسكو تصالحت بسرعة مع هذه الحقائق غير المريحة، مقتنصةً ما أمكنها الحصول عليه حينما كانت تسنح الفرصة لذلك.
سورية هي المحور المعاصر للصراع الجيوسياسي، والانتهازي الماهر هو ذلك القادر على خلق الفرص التي يستطيع استغلالها… فمن خلال تمكّن روسيا من دعم حصار الموالين في حلب، نجحت ايضاً في لفت انتباه برلين وواشنطن وأنقرة دفعة واحدة. وبعد فرار أكثر من 100 ألف سوريّ من حلب خلال الأسبوعين الماضيين، بدا أنّ هذا الرقم مرشحٌ للازدياد بشكل كبير في حال النجاح في محاصرة المدينة بأكملها.
أما بالنسبة إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فإنّ هذا قد يعني موجة أخرى من اللاجئين من شأنها الدفع نحو تفاقم الأزمة في أوروبا، في ظلّ تزايد نفوذ القوى السياسية القومية التي تسعى إلى استغلال الخوف والاضطرابات التي تدفع بالمهاجرين الى المزيد من التدفق، في ظلّ تصاعد إجراءات سحق هؤلاء بواسطة تدابير التقشف. في حين أنّ روسيا لا تعدم أيّ وسيلة تمكنها من تأييد وتضخيم وجهات نظر الدول المحيطة الرافضة قبول اللاجئين – والتي تنخر يومياً في رأس ميركل وغيرها من السياسيين الأوروبيين.
لا يمكن لبوتين وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا، غير أنّ تدخله العسكري في سورية ساهم بشكل أو بآخر – في تسبيب المزيد من الألم للجسد الأوروبي. تمثل هذه الضغوط رافعة مثالية بالنسبة إلى موسكو، تستغلّها بنجاح من أجل تقسيم مواقف القارة وربما انتزاع حق الفيتو من داخل الكتلة حول قضايا مختلفة، مثل استمرار العقوبات بحق روسيا والاستجابة لطلب بولندا بإقامة قواعد دائمة على الحدود الشرقية لأوروبا وغيرها.
أما في ما يتعلق بالرئيس الأميركي باراك أوباما، فإنّ الحصار على حلب يمثل هجوماً مصوّباً من اتجاهات عدّة. فمحاولة روسيا الإسراع في تجزئة أوروبا تقوّض تلك الشبكة الحرجة من حلفاء الولايات المتحدة، وتتيح فرصاً لأزمات أكبر بكثير في القارة غير المحصّنة ضدّ الصراع الوحشي. وكما قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري منذ أسبوعين في مؤتمر الأمن في ميونيخ: «نحن في الولايات المتحدة لا نمضي أوقاتنا جالسين على شاطئ بحيرة، نفكر اذا ما كنا فعلاً بمأمن من كلّ ما يجري حولنا. تتفهّم الولايات المتحدة طبيعة هذا التهديد الوجوديّ، سواء في السياسة أو على مستوى نسيج الحياة في أوروبا». اذاً، يتفهّم البيت الأبيض جيداً مكمن الخطر في التقاطع بين الأزمة الأوروبية والحرب الأهلية السورية، ويبدو أنه أقلّ ميلاً الى تحجيم دور روسيا في هذا الصراع.
ومن المعروف أنّ روسيا قصفت العديد من مراكز المتمرّدين الذين تستخدمهم الولايات المتحدة كوكلاء على الأرض في معركتها ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية. حتى في نقاط المفاوضات الفاترة، مثل إعلان وقف إطلاق النار الذي انبثق عن المحادثات بين كيري ونظيره الروسي، سيرغي لافروف، في ميونيخ الأسبوع الماضي، حيث أُخذت جميع المحاذير الروسية في الاعتبار. وفي الوقت الذي يتنقل فيه كيري بين عواصم العالم من أجل تنظيم محادثات السلام المكوكية حول سورية، تواصل روسيا عملياتها العسكرية على الأرض مدّعية استهداف «جبهة النصرة» وغيرها من الأهداف المدرجة ضمن قائمتها السوداء. وطالما أنّ روسيا مصرّةً على انتهاج سياسة إفساد الأمور، فستستمرّ الولايات المتحدة حربها ضدّ الدولة الإسلامية في سورية، ببطء شديد وبشكل محبط للغاية.
التلويح بالورقة الكردية
كذلك، في ما يتعلق بالرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، فإنّ هجوم قوات النظام المدعومة من الطائرات الروسية في حلب يستدعي حضور مجموعة من التحدّيات الجيوسياسية الى الواجهة. فالضغوطات التركية تتعلق باحتمال تواصل تدفق العشرات من اللاجئين إلى حدودها في الوقت الذي تتخذ فيه القارة الأوروبية تدابيراً للحدّ من تدفق اللاجئين إلى القارة. لكن، وعند تقديم تركيا حلاً لهذه المعضلة، لن تكون أوروبا مضطرّة لاستيعاب اللاجئين على أراضيها، وذلك من خلال خلق «منطقة آمنة» في شمال سورية لإقامة اللاجئين من ناحية، وتشكيل محيط آمن لتركيا من ناحية أخرى ومع المحافظة على بصمتها الأمنية في شمال العراق، فإنّ تركيا تساهم أيضا في إيقاف تقدّم الأكراد في الشمال السوري.
ومع تدهور علاقاتها مع تركيا، لم يعُد خافياً على أحد تنامي الاتصالات الروسية مع المتمرّدين الأكراد في سورية ممن ينتمون إلى وحدات حماية الشعب. إنها لعبة قديمة في كتيّب روسيا السياسي. وكما ذكرت إحدى الصحف الأسبوعية المختصة في وقت سابق، فإنّ أحداث العام 1946 تعدّ محوراً أساسياً لفهم التوتر الأساسي المستمرّ بين تركيا وروسيا لعدّة قرون. وكان هذا هو الوقت الذي بدأ فيه السوفيات ينتهجون سياسةً حذرةً بسبب تطوّر العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، في الوقت الذي لم تغفل أعينهم عن المضائق التي تسيطر عليها تركيا، والتي تشكل مفاتيح التواصل بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط.
رفعت حينذاك، السفارة السوفياتية في أنقرة التقارير إلى وزارة الخارجية السوفياتية بشأن المسألة الكردية، كما عمدت الدعاية السوفياتية الى تسريب أجزاء مختارة بعناية من ذلك التقرير في الصحافة للتأكد من أنّ الأتراك، فضلاً عن الأميركيين، كانوا على علمٍ بدراسة موسكو للمسألة الكردية، وأنها على استعداد للعمل على إشعال النزعة الانفصالية الكردية في الجمهورية التركية الحديثة العهد. يعود تاريخ أحد هذه التقارير الى كانون الأول من عام 1946، ويشير إلى أنّ الحكومة القيصرية قد استخدمت الورقة الكردية بنجاح وبشكل منتظم بهدف إضعاف الإمبراطورية العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، عندما حرّضت على إثارة السخط بين الحكومة التركية وبين الأكراد، بشراء دعم هؤلاء بالمال وبالوعود البرّاقة.
إنّ أقصى ما يمكن أن تقدّمه روسيا اليوم للأكراد هو وعدٌ باحتمال قيام دولة كردية موحّدة ومستقلّة تمتدّ من كردستان السورية إلى شمال العراق. في الواقع، فإنّ هجوم الموالين الذي دعمته روسيا في حلب، مكّن الأكراد من التقدّم من الشمال الغربي شرقاً نحو أعزاز على طول الحدود التركية. أما من وجهة نظر تركيا، فإنه كلّما تباطأت أكثر في البقاء على الجانب التركي من الحدود، كلّما زاد ذلك من فرص انضمام عفرين إلى المساحات الشاسعة من الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد غربي نهر الفرات، وخلق دولة كردية بحكم الأمر الواقع على الحدود التركية للذهاب جنباً إلى جنب مع حكومة إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي في شمال العراق. على الرغم من وجود بعض العقبات التي تجعل تحقيق هذا السيناريو على أرض المعركة أمراً مستبعداً في المدى القريب.
تدرك روسيا جيداً أهمية التلويح بهذه الورقة بشكل جيد في الوقت الحالي، وكانت قد أعلنت على الملأ منذ فترة قريبة، أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي يعتزم فتح مكتب له في موسكو. لذا، فإنّ منح بعض الشرعية للجماعات المتمرّدة الكردية، التي تحاول تركيا بشق الأنفس استبعادها من على طاولة المفاوضات في سورية، مع تمكين التقدّم للمتمرّدين الأكراد في ساحة المعركة السورية، يعتبر وببساطة – أكثر مما يمكن لأردوغان أن يتحمّله. ونتيجة لذلك، فقد بدأت المدفعية التركية في قصف مكثف لوحدات حماية الشعب الكردي في الشمال حول أعزاز وتلّ رفعت، كما كرّرت رسالتها إلى البيت الأبيض، بأنّ واشنطن وأنقرة لا يمكنهما مواصلة الخلاف بشأن المسألة الكردية في سورية.
أشرنا في معرض توقعاتنا السنوية للعام 2016، إلى أنّ روسيا ستكثّف عملياتها الجوية في سورية في محاولة لشلّ يد أنقرة، لكن التقاعس لا يشكل خياراً مطروحاً بالنسبة إلى تركيا. وبدلاً من ذلك، ستقوم تركيا – مدفوعةً بالتهديد الكردي – بحشد ائتلافٍ يضمّ المملكة العربية السعودية من أجل إزالة العقبات في ساحة المعركة السورية. هذا هو السيناريو المطروح بقوة على الساحة الآن مع استعدادات المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تنفيذ عمليات من قاعدة إنجرليك التركية. لن تسمح تركيا أن يُعمل على تحجيمها من قبل الروس، وسوف تفعل كلّ ما في وسعها من أجل إجبار الولايات المتحدة على تمكينها من تحرك عسكري في الشمال السوري. وفي هذا إرسال رسالة تركية إلى واشنطن، مفادها أنه لا يمكن اعتبار الحكومة التركية مجرّد مجموعة أخرى أو فصيل من الفصائل على أرض المعركة السورية بل هي دولة قومية ذات مصالح وطنية يبدو أنها أصبحت مهدّدة، وذلك على حدّ قول نائب رئيس الوزراء التركي يالجين أكدوغان، «لا يمكنك أن تعلب دور الدفاع في جميع الأوقات، مع علمك أنك قد تكسب المباراة».
لا تعارض الولايات المتحدة التدخل التركي في شمال سورية، طالما يشتمل هذا التدخل على اتخاذ إجراءات أقوى ضدّ الدولة الإسلامية. لكن تبقى مسألة التعامل مع موسكو. فتركيا، فضلاً عن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، ليسوا على وشك اتخاذ خطوة متهوّرة في شمال سورية، حيث تعي هذه الدول الثلاث المخاطر المرتبطة بمواجهة روسيا براً وجواً بشكل واضح لا لبس فيه. إنّ انتشار اللاعبين في ساحة المعركة أمرٌ لا مفرّ منه، غير أنّ مهمة التخفيف من احتمالات المناوشات تقع على عاتق واشنطن فقط.
عودة المفاوضات إلى واشنطن
مع دخول حلب إلى ساحة اللعبة الاستراتيجية، توجّب على بوتين الجلوس في انتظار مكالمة هاتفية من واشنطن. ففي 13 شباط الحالي، أعلن البيت الأبيض في وسائل الإعلام أنّ أوباما اتصل هاتفياً ببوتين، وحثّه على إنهاء الحملة الروسية في سورية. يمكن لنا الافتراض أنّ هذه المحادثة قد ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. فروسيا، وبعد كلّ شيء، خططت لتدخلها العسكري بغية الوصول إلى تحقيق تفاهم مع الولايات المتحدة. وسورية والحال هذه – هي أحد أوراق المصلحة الاستراتيجية بالنسبة للروس، لكن أهمية سورية تخضع لرغبة روسيا في إبطاء زحف القوات العسكرية الغربية في محيطها السوفييتي السابق. ومع استمرار الأزمة السياسية في أوكرانيا، في ظلّ وجود حكومة هشّة للغاية في كييف، تنشأ كتلة متماسكة من البلدان في أوروبا الشرقية، تسمّى مجموعة فيزيغراد، وتضمّ بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا. تسعى بولندا، على وجه الخصوص، إلى خلق قوة من حلف الشمال الأطلسي في أوروبا الشرقية على الحدود مع روسيا. ومن أجل تحسين فرصها في إقناع حلف شمال الأطلسي بتحصين موقفها، قامت بإرسال طائرات «إف 16» للمشاركة في دعم التحالف الدولي في سورية بهدف إظهار حسن النية. وفي هذه الأثناء، تتواصل المناقشات بين واشنطن وبوخارست من أجل تعزيز انتشار حلف شمال الأطلسي على البحر الأسود، مع استعداد أكبر لدى تركيا للبتّ في هذه المناقشات، خصوصاً في ظلّ توتر علاقاتها الحالية مع روسيا.
بإمكان الولايات المتحدة العمل على تصعيد أو تهدئة هذه التدابير اعتماداً على الطريقة التي تريد بها توجيه مفاوضاتها الجارية مع موسكو. كما يمكن للولايات المتحدة أن تؤكد لموسكو أنّ خطط الناتو في أوروبا سوف تخضع للتحجيم، على الرغم من أنّ هذه التأكيدات قد تتبخّر مع قدوم رئيس جديد إلى البيت الأبيض في العام 2017. وقد حاولت الولايات المتحدة أيضاً دفع كييف نحو تقديم تنازلات سياسية بخصوص المناطق الشرقية المتمرّدة في أوكرانيا، إلا أنّ حكومة هذا البلد، تبدو متهالكة وضعيفة بشكل كبير، فضلاً عن أنها لا تمتلك الإرادة السياسية المستقلّة من أجل تقديم التنازلات التي قد ترضي موسكو.
بحثاً عن كعب أخيل الروسي
لعبت روسيا بالورقة الكردية بشكل فعّال في مواجهة تركيا، لكن من الممكن لموسكو أن تتجرّع السمّ الذي صنعته بنفسها، في نهاية الأمر. ارتفع حجم وانتشار الاحتجاجات الروسية في جميع أنحاء البلاد بشكل كبير خلال العام الماضي بسبب الأزمة الاقتصادية المتفشّية، حتى إنّ الحكومة الروسية شرعت في شنّ حملات أمنية وقائية ضدّ جماعات المعارضة والعمال الساخطين والمنظمات غير الحكومية التي قد تُستغلّ من قبل القوى الخارجية بهدف زعزعة استقرار روسيا من الداخل، لكن، سيكون من الصعب على الحكومة القيام بمواجهة مثل هذه الشقوق.
من المقرّر إجراء الانتخابات التشريعية في أيلول المقبل، وهي الانتخابات التي سوف تقطع الشكّ باليقين حول إمكانية تطوّر هذا العدد الكبير من الاحتجاجات المتفرّقة، إلى تهديد أكثر عمقاً وجدّيّةً في الشوارع. وفي الوقت الذي يهدّد فيه الكرملين بنصب صواريخ في كالينينغراد، تضيّق قوات الأمن الروسية الخناق على قوات المعارضة في الإقليم المنعزل على بحر البلطيق بهدف رصد سريع من قبل الكرملين لأيّ تلميحات بالانفصال.
تميل نقاط الضعف الرئيسية في روسيا إلى التركز في شمال القوقاز ذات الأغلبية المسلمة، حيث بنى بوتين إرثه هناك على أنقاض الحرب الأهلية في الشيشان. ولدعم هذا الإرث، قدّم بوتين الدعم إلى الزعيم الشيشاني المتشدّد رمضان قديروف الذي يظهر الولاء للرئيس الروسي مع خطاب يتميّز بتأثير استقطابي على المعارضة الروسية والقوميّين المتشدّدين والأعضاء الأقوياء في مكتب الأمن الفيدرالي الروسي. ومع ذلك، يمثل قديروف أداةً لاحتواء الشيشان، قد لا يكون بوتين راغباً في التضحية بها في الوقت الراهن. ربما يكون التحدّي الأكثر صعوبة بالنسبة له، صعود تيار السلفية والنفوذ المحافظ المتشدّد في داغستان، حيث تزداد معدلات القمع، في الوقت الذي يستخدم فيه قديروف، وبكلّ ثقة عدم الاستقرار في داغستان من أجل توسيع سيطرته الإقليمية.
سيكون من الأهمية بمكان مراقبة نقاط الضعف هذه في الأشهر المقبلة بينما تتنقل روسيا بين المرتفعات والمنخفضات في التفاوض مع واشنطن وأنقرة وبرلين ودول الخليج. وفي الوقت عينه، سيكون من الخطأ ببساطة افتراض أنّ تلك الاضطرابات في روسيا ستتضخم عضوياً إلى المرحلة التي تطغى فيها على اهتمامات الحكومة الروسية وتدفعها نحو تخفيض الأنشطة العسكرية في الخارج. تمتلك روسيا مقدرة عالية على تحمّل الألم الاقتصادي مقارنة بمعظم الدول، فضلاً عن أنّ قرار مواصلة العمليات في أماكن مثل سورية وأوكرانيا يعتمد على ما هو أكثر بكثير من الاعتبارات المالية.
اعرف عدوّك
في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة باحتساب تحركاتها المقبلة، يتوجب عليها أن تفهم بشكل جيد طبقات الاستراتيجية الروسية وتجنّب السقوط في أسر الأوصاف التبسيطية. من السهل اعتبار بوتين ممارساً للبلطجة والفتوّة، لكنه يدرك جيداً حدود القوة الغاشمة، والأهمّ من ذلك، أنه يدرك حدود أعدائه في استخدام القوة في مواجهته. وينعكس هذا في حبّه لرياضة الجودو الذي كثيراً ما يصفه على أنه فلسفة وأسلوب حياة. وكما يقول بوتين، فإنّ الجودو يعلّمنا أنّ الخصم الذي يبدو ضعيفاً قد لا يكون قادراً فقط على إبداء مقاومة قوية، بل قد يفوز في النهاية فيما لو قرّر خصمه الاسترخاء والنظر إلى الانتصار على أنه قد صار مضموناً. وبالعودة إلى تشرين الأول، فإنّ البيت الأبيض وغيره قد سخروا من الروس، إلا أنهم لم ينجحوا في استيعاب درس أفغانستان متوقعين أنّ الركود الاقتصادي والحرب الأهلية الكثيفة الاستهلاك للموارد سوف تلدغان روسيا سريعاً. ربما يأتي هذا اليوم في وقت ما، لكن على الغرب أن يقوم بما هو أبعد من مجرّد الانتظار.
هناك قدر كبير من المرونة بخصوص ما يمكن أن تحققه الاستراتجية الروسية في التفاعل مع الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضدّ «الدولة الإسلامية ـ داعش»، والأزمة الأوروبية ومعركة تركيا الوجودية مع الأكراد. أنفق بوتين بالفعل قدراً كبيراً من الوقت والطاقة والموارد في إقامة هذه المرحلة من التفاوض مع الولايات المتحدة، لكنه أيضاً لن يكون مخدوعاً من قبل فكرة تمكّنه من تحقيق كامل أهدافه الجيوسياسية. فالواقعية السياسية التي ينتهجها الكرملين لا تمانع في الاكتفاء بتحقيق بعض النتائج الجزئية، ويمكن أن تظهر تلك النتائج نفسها على ساحة المعركة السورية، أو في شرق أوكرانيا أو قد لا تظهر على الإطلاق في حال فشل المفاوضات. أما في الحالة الأخيرة، فإنّ المرحلة المقبلة من الأزمة ستمتدّ آثارها لتشمل إلى ما هو أبعد من المدينة المحاصرة في حلب.
مركز دراسات استراتيجي وأمني أميركي، يعدّ أحد أهمّ المؤسسات الخاصة التي تعنى بقطاع الاستخبارات، يعلن على الملأ طبيعة عمله التجسسي، ويجسّد أحد أبرز وجوه خصخصة القطاعات الأميركية الحكومية.