المطرب العراقيّ الأصيل فاضل عواد مغنّي «لا خبر» ونجم السبعينات يتصوّف اليوم معتزلاً

كتب كرم نعمة: وقف الغريب مشدوداً إلى نفسه في منتصف الطريق وهو يسمع الصوت القادم إليه من أعماق الذاكرة «كلمة حبيبي انتهت شختار إلك كلمة» فمن أتى بهذه الأغنية إلى المدينة النائمة مثل أفعى طيعة على ضفاف المتوسط في شمال أفريقيا؟

كان صوت فاضل عواد ينطلق من راديو في محل إسكافي في سوق مدينة مصراتة العتيقة، بينما بقي الغريب يستعيد رباطة جأشه كي لا يفقد توازنه وهو يستشعر الشجن في داخله لهذه الأغنية التي عبرت من سبعينات بغداد إلى الإذاعة الليبية لتبثها في ظهيرة شتائية نادرة، ليس جميع العراقيين يتذكرون هذه الأغنية، فكيف وهي تبث عبر الأثير من ضفاف البحر المتوسط في اتجاه الصحراء الأفريقية.

القدر أو طوق الحصار الأعمى الذي فرض على العراق إبان عقد التسعينات دفع بفاضل عواد إلى مغادرة بلاده إلى ليبيا آنذاك، ولم يزر مصراتة إلا كي يتأمل مرقد محتسب العلماء والأولياء أحمد الزروق المدفون فيها. كان فاضل عواد الصوفي المريد وحامل درجة الدكتوراه باللغة العربية آنذاك، وليس المطرب الولهان المنتشي بـ»لا خبر» و«عيني يم عيون تضحك» و«حاسبينك» لكن القائمة لن تطول لأنه لم يعد ذاك المغني! إنه اليوم صوفيّ يُزار ولا يزور!

هل ثمة ما يستدعي في استذكار الفنان الدكتور فاضل عواد اليوم؟ ربما، لأنه يظهر في الفضائيات متحدثاً، لكنه لا يغني، ولا يقبل أن يخاطب بالفنان فاضل عواد بل بالدكتور، كأنه يريد أن يتخلص من تاريخه الغنائي أو يعيد القيمة للشهادة التي يحملها فهي لديه أثمن من صوته.

سأزعم أنني أعرف فاضل عواد أكثر من غيري، ليس عبر سنوات بغداد والحوارات التي أجريتها معه على صفحات مجلة «الرافدين» وصحيفة «الجمهورية» آنذاك، بل للسنوات التي جمعتنا بعد ذلك معاً في ليبيا. كنا نصنع ممّا أفل في حياتنا قصة أغنية ويوحي الأمل الذي يتلبّسنا بلحنها.

لم أنس ما حييت وأنا أخبره أن صافيناز كاظم كتبت عنه مقالاً في مجلة «الهلال» وهي تستعيد إحياء أغنيته «ما عاشرتهم» أعاد غناءها لاحقا عاصي الحلاني وتبحث عمّا يجمعها بأغاني كاظم الساهر التي كانت شائعة مطلع التسعينات.

كنا نسير في شارع الحبيب بورقية وسط تونس في أمسية صيفية، وأنا أعيد قراءة المقال له من المجلة التي وصلت إلى أكشاك الشارع الذي لم تغادر العصافير أشجاره، وهو يستمع برباطة جأش منطوية على تاريخها. لم يعلّق كثيراً، فمساحة المطرب في داخله لا يريد لها أن تظهر.

كانت صافيناز كاظم تكتب من وحي سنواتها في العراق، وكيف أن صوت فاضل عواد أوقد في داخلها تاريخاً من الحنين هل بقي الحنين يراودها بعدما سقطت في لجة الإسلام السياسي، أشك في ذلك! . من يعيد الأغنية اليوم «لو أدري هيج يصير ما عاشرتهم ما ذقت طعم النوم من فارقتهم».

فاضل عواد المولود في أحياء مدينة الحرية الشعبية في بغداد عام 1942، نتاج بيئة متحركة آنذاك. الطموح ما كان يتوقف بداخله فدرس في معهد السكك كتقني فني، إلاّ أنه اتجه إلى دراسة اللغة العربية ونال الدكتوراه من الجامعة المستنصرية وقبلها الماجستير من جامعة بغداد في الأدب العباسي. لعل لذلك لم يتواز في داخله المغني والأستاذ الجامعي، فكان الأول هامشاً ولا يقبل أن يقدم الفنان على الدكتور، رغم أن الناس أحبته كمطرب ولم تتعرف إليه كأستاذ جامعي باستثناء من درّسهم في العراق وليبيا.

كنت «أستفزه» في محاولة متأخرة لإدخاله في شرك «لعبتي الصحافية» لكنه كان يرفض العودة إلى غناء يكون دافعه الأول والأخير مجرّد الرقص وإثارة الغرائز!

بقي على مدار العقدين الماضيين مقتنعاً تماماً بصمته ومكتفياً بذاته، يشعر بمتعة حين يعيد قراءة «الفتوحات المكية» أكثر من إعادة أجمل أغانيه. لا يغني حتى مع نفسه إلاّ إذا اطمأن، يكتب ويقرأ كثيراً في سير المتصوفة. إنه صوفي أكثر منه مغنياً.

ظهر يغني أخيراً بنص كتبه ولحنه من طور الجوبي «الحبيبب جانا» وكأنه يعيد سنوات الشهرة التي لمع اسمه فيها إبان عقد السبعينات من القرن الماضي في ألحان الفنان الراحل أحمد الخليل بالطور نفسه لأغنيته الأخيرة. من ينسى «تريد مني التفاح» و«نايل قتلني ونايل غير أحوالي».

لا يمكن وفق الحس النقدي لتجربة فاضل عواد الغنائية. أغنية «لا خبر» التي شاعت وتداولها الجمهور العراقي والعربي ممثل هذا الفنان تمثيلاً كاملاً لعل هذه الأغنية التي كتبها طارق ياسين ولحنها حسين السعدي هي الأكثر شيوعياً بين أغانية آنذاك، لكنها ليست الأجمل والأكثر تعبيراً.

وصف لي أغنية «صبر وشموع» مثلا بالأغنية التي لا يعلى عليها، وعلى الجمهور المعاصر أن يدين بالشكر العظيم للخدمة التي يقدمها إليه «يوتيوب» وهو يقدم هذه الأغنية وغيرها.

التعبيرية في «صبر وشموع» تجد لها امتداد سلسلة فضية في نتاج فاضل عواد. دعونا نستذكر مثلاً «عيني يم عيون تضحك» فأي درس تعبيري تقدمه هذه الأغنية بنصها المفعم بالشعرية الباذخة، ولحنها المتسق مع روح الكلمات وليس آليتها. أعتقد أن إعادة الاستماع إلى هذه الأغنية اليوم يعيد «تحسين» ذائقة جيل غنائي سقط في لجة اللاتعبيرية.

صاغ فاضل عواد مع ألحان محمد جواد أموري وقصائد الشاعر الراحل كاظم الرويعي عقداً فنياً سحرياً لن يغادر الذاكرة الغنائية العراقية، ويا للخيبة ونحن نفتقد أرشيف مثل هذه الأغاني إلا عبر تسجيلات رديئة، فمن سرق مشاعر أجيال وأحرق ما تبقى من ذاكرة العراقيين.

المولعون بهذه الأغاني يضعونها اليوم على «يوتيوب» على نحو شخصي. ربما ما زال بين العراقيين من يحتفظ بأشرطة الكاسيت والمسجلات الكبيرة كإرث عتيق مثل الأغاني العتيقة.

كتب الرويعي «كلمة حبيبي انتهت» كان يبحث عن أكثر مما يمكن أن تمنحه إياه اللغة، وهو الشاعر! احتار محمد جواد أموري كيف له أن يوائم بين روح الكلمات مع النغم من دون أن تؤثر فيه آلية تلك الكلمات، فولدت هذه الأغنية ملتاعة متسائلة بصوت فاضل عواد، وأنا متأكد من أن أي عاشق اليوم سيدع حبيبته تذوب وَلَهًا وهو يهديها «كلمة حبيبي انتهت شختار الك كلمة/ وأنت بحلاتك شعر وبمشيتك نغمة/ تمشي على نبض القلب يل زحمتك رحمة». جعل محمد جواد أموري الكمانات تنطلق من أعماق الروح وهي ترافق الآداء المؤثر لصوت فاضل عواد، وكان في أوجه آنذاك.

توّج هذا الثلاثي في أغان كانت تكمل العقد التعبيري في تجربة فاضل عواد فولدت «صبر وشموع» و«يا نجوم صيرن كلايد» و«عادوا الغياب»، و«ضوة خدك» و«على الحواجب يلعب الشعر الحرير».

لا أحد من جميع الذين حاوروا فاضل عواد على الشاشات اليوم أطلق أمامه أسئلة هذه الأغاني. هل نسيها؟ هل يعلم كيف أرّخت لتاريخ من الحنين؟ هل يتذكر كيف حفظها ومن ثمة كيف أداها للمرة الأولى؟

لن يقف الإبهار عند الحس العراقي في أغاني فاضل عواد، فعندما حمل أغنية «سومري» إلى مهرجان الأغنية العربية في دمشق توجت بالميدالية الذهبية، فيما توّجت «حاصودة وبيدي المنجل» أغنيته الوطنية المشتركة مع الفنانة مائدة نزهت التي كتبها الشاعر الراحل جبار الغزي توجت بالميدالية الفضية في المهرجان نفسه.

لكنه لم يبق في حدود أغنية البيئات وفق تعبير الناقد العراقي الراحل عادل الهاشمي، وتحرك في مساحات غنائية لم تكن متاحة لأبناء جيله آنذاك وبينهم فؤاد سالم وياس خضر وحسين نعمة وسعدون جابر وحتى قحطان العطار وحميد منصور، فكانت أغانيه البغدادية بلهجتها المفخمة وألفاظها التي لا يشوبها الضعف «يا لجمالك سومري»، «أرد أنشد الصوبين كرخ ورصافة»، «أشكر بشامة»، ثم استثمار أطوار النايل والجوبي في أغاني «تريد مني التفاح» و«نايل قتلني» وتوج تجربته بآداء قصيدة ابن زيدون «هل تذكرون غريباً» التي لحنها عميد الغناء العراقي الراحل عباس جميل في تعاون مثمر بين الأجيال، فعباس جميل كان يمثل القيمة اللحنية العليا في جيل الخمسينات، بينما يعطي فاضل عواد صورة عن مغنّي جيل السبعينات وملحنيهم.

شكل فاضل عواد مع الملحن الراحل طالب القره غولي مساحة تعبيرية في نتاج هذا الجيل، فكانت أغنية «اتنه اتنه» و«حاسبنك» التي ما برحت موسيقاها تدور بين المدن كأنها لا تكف عن أن تكون شاهداً فنياً وتاريخياً. مثلما أدى لحن الفنان البصري ذياب خليل «عليك أسأل».

تكاد تكون سنوات نهاية الثمانينات من القرن الماضي بداية تخلي فاضل عواد عن صوته وإدراج الغناء في خانة تاريخ متحفه الشخصي. ربما اكتشف أن الصوفي في داخله أجدر، لذا اقترب من «جواسيس القلوب» فهم أصحاب مقامات وكرامات، فلا يخفي أنه يعرف أولئك الذين يعيدون عليه الوله الصوفي.

فاضل عواد يدرّس العروض في الجامعة بعدما اكتشف بحراً أطلق عليه «الوافر المحلى» ليضيفه إلى بحور الفراهيدي. صوفيّ خذل صوته. متسق مع ذاته لا يتهرب من تاريخيه، حياة «أبي حجاز» تمضي لكن من دون آله عود يعزف عليها، فمن يزوره من أصحاب المقامات العالية يتلون عليه غناء وجداني يخترق أعماق أعماقه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى