براعة التكتيك: الهدنة تصوغ قانوناً لمواصلة لحرب لا لإيقافها

ناصر قنديل

– سيكون من السهل الجواب بالنفي عن السؤال حول جدوى الهدنة في تحقيق الهدف التقليدي لأيّ هدنة وهو وقف الحرب، وفي الحرب التي تعيش سورية تحت وطأتها سيكون سهلاً نفي فرصة تحقيق هذا الهدف لمجرد أنّ الطرفين اللذين يخوضان الحرب من جهة، والجيش السوري وحلفاؤه من جهة ثانية، قد جرى استثناؤهما أصلاً من إجراءات الهدنة، والمقصود طبعاً تنظيم داعش وجبهة النصرة، ليصير السؤال مشروعاً عن مبرّر الهدنة وأهدافها.

– مرّت الحرب على سورية في مراحل أربع لتحديد أولوياتها بين القوى الدولية والإقليمية المعنية بها، نجحت خلالها سورية وحلفاؤها وعلى رأسهم روسيا وإيران، في تحويل الانتصارات الميدانية إلى تحوّلات سياسية، بنقل المعسكر الذي تقوده واشنطن ويشكل صاحب قرار الحرب، من مرحلة إنكار وجود الإرهاب واعتبار الأولوية هي إسقاط النظام ورئيسه، إلى مرحلة الإقرار بخطر الإرهاب والتحدّث عن عدم أهلية النظام ورئيسه للشراكة في الحرب على الإرهاب واعتبار تنحّي الرئيس ورحيله شرطاً للفوز بهذه الحرب، وجعل الأولوية لمعارضة مسلحة معتدلة تقاتل الإرهاب والنظام معاً، وصولاً إلى مرحلة ثالثة جرى خلالها تقديم «جبهة النصرة» كقوة معتدلة لا غنى عن انخراطها في العملية السياسية كشرط للفوز على الإرهاب ممثلاً بـ«داعش». وقد جهد حلفاء واشنطن من تركيا إلى السعودية و«إسرائيل» وقطر ومعهم قادة أميركيون يتزعّمهم رئيس المخابرات الأميركية الجنرال ديفيد بترايوس، لتعويم «جبهة النصرة» وجعلها عموداً فقرياً للفريق المطلوب أن يتمّ التفاهم معه لتوفير مقتضيات الفوز بالحرب على «داعش» والنظام معاً، على أن يفتح الباب في العملية السياسية لبعض النظام للمشاركة في هيئة حكم انتقالي لا مكان للرئيس السوري فيها ويفترض أن تتولى صلاحياته بعد تنحّيه، وبعد حروب ضروس سقطت المرحلة الثالثة وولدت مرحلة ما بعد التفاهم على الملف النووي الإيراني وما بعد التموضع الروسي العسكري، وصار عنوانها أولوية الحرب على الإرهاب، وعملية سياسية يقرّر في نهايتها السوريون عبر الانتخابات مصير الرئاسة، كما ورد في القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن. وبقيت المرحلة الرابعة رمادية بغياب تحديدين، تسبّب غيابهما بفشل جنيف الثالث، وهما مَن يمثل المعارضة وما هي التنظيمات الإرهابية؟

– بقي حلفاء واشنطن، وخصوصاً التركي والسعودي و«الإسرائيلي»، يراهنون على تحييد «جبهة النصرة» عن لوائح الإرهاب أو تمييع أيّ إجراءات ضدّها، إذا تمّ تصنيفها إرهاباً، لأنها القوة الضاربة المنتشرة في أغلب جبهات القتال ضدّ الدولة السورية، وتحت عباءتها تختبئ التنظيمات التابعة لحلفاء واشنطن باسم معارضة معتدلة، وتدّعي حجماً مضخماً لوجودها، وتضيع طاسة الحرب، بين حرب تخوضها الدولة ضدّ الإرهاب وحرب تخوضها المعارضة ضدّ الدولة وبقيت واشنطن تتهرّب من تصنيف دقيق للتنظيمات الإرهابية ومنها حلفاء حلفائها، وتتهرّب من فرض معايير تشكيل وفد المعارضة وفقاً للقرار الأممي، مراعاة لحلفائها وتفادياً لمواجهتهم وصار الحسم العسكري للجيش السوري بغطاء جوي روسي في شمال سورية طريقاً وحيداً لفرض معادلة جديدة، لكونه يهدّد الحضور التركي في سورية ويطال ثنائي «داعش» و«النصرة» ومَن يلوذ بهما، فصارت واشنطن معنية بالتفاوض على صيغة تضع قانوناً للحرب، والعنوان الروسي السوري جاهز، تكتيك الهدنة.

– يقوم تكتيك الهدنة السورية بداية المرحلة الخامسة، بصياغة معادلة معاكسة لما يتمّ عادة، فالهدنة عرض تقدّمه روسيا وسورية والحلفاء للجماعات المسلحة التي تدّعي انتساباً إلى عنوان المعارضة وقبولاً بالعملية السياسية تحت شعار أولوية الحرب على الإرهاب، وعنوانها حصر الحرب بـ«داعش» و«النصرة» راهناً، ومنح الجماعات المسلحة الأخرى فرصة الاختيار بين الانضمام إلى معسكر «داعش» و«النصرة»، أو الانضمام إلى معسكر المستفيدين من الهدنة. وهذا وحده سيتكفل بفرز معايير التنظيمات الإرهابية لتصنّف ذاتها بذاتها من جهة، وسيوفر فرصة لشرعية دولية تأتي بداية من التوقيع الأميركي المشترك مع روسيا على مبادرة الهدنة ولاحقاً من القرار الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي بتأييد الهدنة وتصديق شروطها، للحرب التي تخوضها سورية وروسيا والحلفاء على «داعش» و«النصرة»، وهما مَن يحتلان أغلب الجغرافيا السورية المُراد تحريرها، وهكذا تنقسم الجماعات المسلحة فوراً، بين مَن يعلن الانضواء تحت جناح «النصرة»، وبين مَن يقرّر خوض غمار الإفادة من ثمرات الهدنة ببداية مسار سيجعله جزءاً من دينامية تنفصل عن «النصرة»، التي قرّرت معاملة المشاركين بالهدنة كأعداء، لينخرط تدريجاً في سياق إذا أراد مواصلته سيجعله ضمن معادلة التعاون مع الدولة السورية في قلب التسوية، أو الارتداد إلى صفوف الإرهاب وتحمّل التبعات إذا لم يستطع تحمّل أعباء ومترتبات المرحلة الجديدة ومقتضياتها.

– الهدنة هنا تضع قانون الحرب، وتفك وتركّب جبهات القوى المقابلة للدولة السورية، وتبسط آلياتها السياسية، فتمنح حربها الشرعية الدولية، وتشطب بقوة هذه الشرعية وغطائها القوة الأخطر في تاريخ الحرب على سورية التي مثلتها وتمثلها «جبهة النصرة» مع حجم الرهانات المعقودة عليها ونوعيتها وأطراف هذه الرهانات، وتفتح الباب لعملية سياسية تتمثل فيها المعارضة بوفد يضمّ الجماعات المنخرطة في مسار الهدنة، وفي طليعتها لجان الحماية الكردية التي لم يَعُد ممكناً استبعادها مع الواقع الذي فرضته الجغرافيا العسكرية شمال سورية، وصار محسوماً أنّ للعملية السياسية الناتجة هنا مسار واحد هو تشكيل حكومة تقود الحرب على «داعش» و«النصرة» ومن انضوى طوعاً تحت جناحَيْهما، وتمهّد الطريق لانتخابات يقرّر عبرها السوريون من يتولى مؤسسات الحكم في بلدهم.

– براعة التكتيك في هدنة تضع قانون الحرب لمواصلتها لا لإيقافها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى