أولى

حكومة الشروط المستحيلة:
مستحيلة… وتُسقط صاحبها

 العميد د. أمين محمد حطيط _

لا بدّ من ان ننوّه بالمآل الذي آلت اليه الاستشارات النيابية التي كانت مقرّرة يوم أمس الاثنين، فقد أكد تأجيل هذه الاستشارات مسائل كان من الخطير السكوت عليها، وللإيضاح أكثر نقول بانّ الوصول الى الاستشارات المؤجلة للمرة الثانية كان عبر مخاض تقلب في المحطات حرجة نذكرها مع توصيفها كالتالي:

بدأت المسألة باستقالة الحكومة التي أقدم عليها رئيسها سعد الحريري في عملية انقلابية على شركائه الأساسيين فيها. استقالة بدت أنها نوع من الطعن بالظهر ضدّ كلّ من رئيس الجمهورية الذي أظهر شدة احتضان ودفاع عن الحريري في محناته وأزماته، وضدّ الثنائي الشيعي الذي محضه كلّ أنواع الحماية والدفاع، وطبعاً ضدّ التيار الوطني الحر الشريك الرئيس للحريري في التفاهم حول الحكم. ورغم ألم الطعنة وعمقها فقد تحامل المغدورون على أنفسهم وعضّوا على جرحهم وأكدوا للحريري تمسكهم به لا لشيء إلا لأنه صاحب أكبر كتلة نيابية سنية وأنهم يثقون بقدرته على التواصل مع الخارج من أجل لبنان.

لكن الحريري الذي انقلب وطعن أقرانه باستقالته، فسّر تمسك الأكثرية النيابية به ضعفاً، وظنّ أنّ بإمكانه عبر ما يسمّى ميثاقية مبتدعة في لبنان حديثاً، أن يفرض شروطه التي دفعته الى الاستقالة الانقلابية تلك، وقرّر أن يناور بطريقة ظنّ انها ستضغط على حزب الله والتيار الوطني الحر فيقبلون بشروطه التي أقلّ ما يُقال فيها إنها خطيرة تمسّ بالدستور والسيادة اللبنانية والحقوق اللبنانية والمكتسبات التي حققتها المقاومة خلال 3 عقود من العمل الشاق في مواجهة الأعداء.

وحتى يكون الأمر واضحاً فإننا نذكر بأنّ شروط الحريري كما بات معلوماً هي خروج حزب الله وحلفائه في التيار الوطني الحر من الحكومة، خاصة جبران باسيل، والحصول على صلاحيات استثنائية للتشريع، التصرّف الأحادي بملف الحدود مع فلسطين المحتلة وإعادة ترسيمها براً وبحراً وفقاً للرغبة الأميركية، السير السريع بالخصخصة وبيع قطاع الاتصالات، وتقاسم قطاع البترول مع أميركا. أيّ ببساطة يريد الحريري تعطيل الدستور في كلّ ما له علاقة بتوزيع السلطة والمشاركة والإطاحة بنتائج الانتخابات وعزل المقاومة وحصارها. وكان طبيعياً أن ترفض شروطه من قبل كلّ من هو حريص على لبنان وعلى دستوره وعلى الاستقرار فيه، فلبنان لا يتقبّل في هذا الظرف خاصة حكم الفرد الواحد ولا ديكتاتورية الشخص أو الجهة الواحدة.

لم يقتنع الحريري بأنّ الرفض نهائي، واتجه الى لعبة قيل فيها  إنها سلوك يتنافى مع الأخلاق الحميدة، وذلك عبر طرح أسماء بديلة لتشكيل الحكومة ثم حرقها الواحد تلو الآخر حتى بلغ عدد مَن حرق ثلاثة معلنين وواحداً مستتراً، ثم زجّ الحريري دار الفتوى في لعبة كانت سيئة الإخراج. وهنا كانت الكارثة التي قضت في الحقيقة على أيّ منطق يتيح للحريري العودة الى الحكم وبشروطه، حيث إنّ إقدام المفتي على حصر الحق برئاسة الحكومة بسعد الحريري كان أمراً فيه تجاوز للدستور فضلاً عن كونه مستفزاً لآخرين رأوا في السلوك تهميشاً لهم وإطاحة بحقوق يحفظها القانون لهم. وجعلهم يرفضون الأمر ويعتبرون الرفض نصرة للدستور من مسيحيين ومسلمين على حدّ سواء.

لم يأبه الحريري لنتائج ذلك بل ومتسلحاً بفتوى دار الفتوى استمرّ في الاستعلاء والتمسك بالشروط الكارثية الإلغائية والاحتكارية التفريطية، كما ذكرنا واستمرّ على اعتقاده بأنه سينال ما يريد وأنه الشخص الذي لا بديل له، استمرّ على هذا النحو من التفكير حتى صباح يوم الاستشارات حيث ظهر له أنّ المسيحيين ورغم ما يقول به بعضهم من تحالف معه لن يقبلوا مطلقاً بانتهاك الدستور كما حصل، وأنّ اللبنانيين الآخرين لن يقبلوا بتهميشهم، وتأكد له انّ تكليفه سيكون من أقلية لا تصل الى الأكثرية المطلقة من مجلس النوابتبيّن له أنّ تكليفه إنْ تمّ فلن يكون طريقاً الى تشكيل حكومة فعلية، واذا شكلها (وهو أمر شبه مستحيل في ظلّ توقيع يملكه رجل صلب وقوي لا يخضع لضغوط ولا يخالف الدستور) تبيّن له كلّ ذلك وشعر بحجم القضية التي تنتظرهفلجأ مستجدياً تأجيل الاستشارات مطلقاً مبرّرات لا تُصرَف عند أحد.

لقد استدرج الحريري بتصرفاته في المحطات المتقدّمة لبنان الى واقع بات يتطلب عملية إنقاذية لا يمكن ان تحصل إلا عبر التسليم بما يلي:

1 ـ الحريري شخص غير مؤهّل شخصياً، الآن لقيادة حكومة إنقاذ وطني، بعد أن خسر الثقة السياسية به خسارة تضاف الى انعدام ثقة أهل الحراك به أصلاً.

2 ـ شروط الحريري مستحيلة التطبيق، وإنّ أيّ تفكير بتطبيقها يعني خروج مَن يتمسك بها من مسرح التنافس الجدي على تشكيل الحكومة.

3 ـ لا يمكن قيام حكومة في لبنان تستثني جهة وازنة إلا إذا أرادت هذه الجهة البقاء في المعارضة.

4 ـ تأكيد مرجع ديني ما، على حصرية من يمثل الطائفة في السلطة وبصيغة الفرض والاستبعاد هو أمر غير مقبول ومستفزّ أيضاً.

5 ـ بات هناك صوت شعبي في لبنان يطلق في الشارع ويجب أن يُسمَع، وهو رغم محاولة تحريفه من جهات خارجية وعبر عملاء الداخل، هو صوت غير قابل للتجاوز ويملك قدرة على التأثير يجب ان تراعى.

6 ـ أما النتيجة الأخطر فهي ببساطة انّ نظام لبنان السياسي الذي أنتجه اتفاق الطائف وطبّق كما طبّق هو نظام غير قابل للحياة وأنه لا يأتي للبنان إلا بمزيد من المآسي.

على ضوء ما تقدّم نرى أنّ حال لبنان وخطورة أوضاعه المالية والاقتصادية والشعبية والأمنية المحتملة، تفرض فوراً تشكيل حكومة تراعي النتائج أعلاه وتسقط شروطاً يُراد فرضها على لبنان. هذه الشروط تسقط لبنان إذا استُيجب لها. وإذا أراد الحريري ان يقدّم خدمة للبنان ولشعبه فما عليه إلا أن يعلن تنحّيه عن التصدي لمسؤولية تشكيل الحكومة، فيعطل بذلك الأثر السلبي الذي أنتجته فتوى دار الفتوى ويستجيب للحراك الشعبي، وأن يساهم في اختيار شخصية وطنية لتشكيل الحكومة ويتراجع عن شروطه التعجيزية فيحفظ سيادة لبنان، ويساهم في إنقاذه فهل يفعل؟

* أستاذ جامعي وباحث استراتيجي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى