أولى

ليبيا وحقيقة 
الموقف المصري!

د. محمد سيد أحمد

ليبيا هي الامتداد الطبيعي والمباشر للأمن القومي المصري مثلها في ذلك مثل فلسطين المحتلة والسودان، وعبر التاريخ دائماً ما يحدد الحاكم حدود أمن بلاده القومي، فكلما كان الحاكم لديه بعد نظر ويمتلك وعياً كبيراً قام بتوسيع دائرة الأمن القومي لبلاده، وكلما كان الحاكم قصير النظر ومحدود الوعي ضاقت دائرة الأمن القومي لبلاده لتنحسر في الحدود المباشرة، وبالطبع يؤدي ذلك إلى تهديد كبير للأمن القومي للبلاد، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في التاريخ المصري، لكننا لا نريد أن نذهب بعيداً، فيمكننا أن نستشهد بنموذجين واضحين في تاريخنا الحديث، فخلال السبعة عقود الأخيرة شهدت مصر حكاماً يمثلون النموذجين، نموذج الأمن القومي المتّسع ونموذج الأمن القومي الحدودي المباشر.

وبالطبع يمثل الزعيم جمال عبد الناصر الذي تحلّ ذكرى ميلاده اليوم (15 يناير/ كانون الثاني) النموذج الأول صاحب بُعد النظر والوعي الكبير بأهمية توسيع دائرة الأمن القومي المصري. فالرجل منذ اللحظة الأولى لثورته أدرك أنّ الأمن القومي المصري لا يقتصر فقط على تأمين الحدود المباشرة مع فلسطين المحتلة في الشرق، وليبيا في الغرب، والسودان في الجنوب، بل إن نظرية الأمن القومي عنده ذات دوائر ثلاث: الأولى هي الدائرة العربية، ولذلك لا بد من دعم هذه الدول والوقوف بجانبها والسعي لعمل وحدة معها، لذلك كان مشروع القومية العربية أحد الاهتمامات والأولويات في فكر جمال عبد الناصر، وتعدّ مشكلتنا الحقيقية الآن في محيطنا العربي هو التفريط في مشروع القومية العربية.

والدائرة الثانية هي الدائرة الأفريقية، حيث أدرك جمال عبد الناصر أهمية أفريقيا بالنسبة للأمن القومي المصري، خاصة دول حوض النيل شريان الحياة بالنسبة للمصريين، لذلك كانت العلاقات الوطيدة مع الدول الأفريقية ومساعداتها في حركات التحرر الوطني وتقديم المساعدات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وما نشهده الآن من مشكلة سد النهضة جاءت بسبب التقصير ولسنوات طويلة في إدارة ملف أفريقيا.

والدائرة الثالثة للأمن القومي المصري عنده هي الدائرة الإسلامية، حيث أدرك أهمية الدول الإسلامية غير العربية والتي يمكن أن تشكل تكتلاً في مواجهة الدول الاستعمارية الغربية. وبعض هذه الدول الآن هي التي يخشى منها على الأمن القومي المصري حيث تهدّد تركيا الإسلامية أمننا القومي بشكل مباشر.

وإذا ما انتقلنا للنموذج الثاني الذي قادنا إلى اللحظة الراهنة وهو نموذج قصر النظر ومحدودية الوعي بأمننا القومي فيُعدّ السادات ومبارك ممثلين صارخين لهذا النموذج الذي ضيّق مساحة الأمن القومي وحصرها في الحدود المباشرة مع دول الجوار، فأهملا الدوائر الثلاث العربية والأفريقية والإسلامية، ووجدا في معاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيوني تأميناً للأمن القومي المصري من جهة الشرق.

وبالطبع ورغم خلافاتهما المتكررة مع القائد الشهيد معمر القذافي إلا أنّ الرجل في ذاته كان أحد التلاميذ الأوفياء لجمال عبد الناصر ولمصر والعروبة، وظل حافظاً للجميل ولدعم جمال عبد الناصر لثورته، فحافظ على الأمن القومي المصري من جهة الغرب على مدار 42 سنة هي مدة حكمه وحتى استشهاده.

وأيضاً رغم عدم استقرار العلاقة بشكل دائم مع السودان إلا أنهما كانا على تواصل دائم مع السودان للحفاظ على الأمن القومي المصري من جهة الجنوب.

واليوم وفي ظل اشتعال النيران في دول الجوار وهو ما يهدّد الأمن القومي المصري بمعناه الضيّق أي الأمن القومي الحدودي المباشر أصبح أي حاكم مصري في مأزق شديد. فقد استبدل السادات ومبارك وبغباء شديد نظرية الأمن القومي المتسع بنظرية الأمن القومي الحدودي المباشر، لذلك لا بدّ أن يتعامل من يحكم اليوم بحرص شديد، وهذا ما يسعى إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، فالرجل ورث وضعاً متأزماً للأمن القومي المصري، ويحاول إطفاء النيران المشتعلة في دول الجوار، فتجده حاضراً في الملف الفلسطيني ومدركاً خطورة العدو الصهيوني الذي شجع الإرهابيين على العبور لسيناء، لذلك خاض معركة شرسة مع الإرهاب في سيناء ويحاول تنميتها لتأمين حدوده من الجهة الشرقية.

وفي الوقت ذاته تجده حاضراً في الملف السوداني الذي يشتعل أحياناً ثم تخمد نيرانه مؤقتاً استعداداً للاشتعال من جديد، وهو بوجوده الدائم في هذا الملف يحاول أن يؤمّن حدوده التي يمكن أن يعبر منها الإرهابيون من جهة الجنوب.

أما الملف الأكثر تعقيداً فهو الملف الليبي ذلك الملف الذي يهدّد الأمن القومي المصري من جهة الغرب بعد أن تحوّلت الساحة الليبية لساحة صراع دولي بهدف سرقة ونهب ثرواتها، فبعد غزو الناتو واغتيال الشهيد معمر القذافي، جاءت القوى الدولية المتصارعة على سرقة ونهب ثروات ليبيا بممثلين لها من أبناء الشعب الليبي ليكونوا في صدارة المشهد والصراع، وتبلورت هذه القوى مؤخراً في جبهتين شاركتا مع الناتو في إسقاط معمر القذافي وهما جبهة حفتر في شرق ليبيا، وجبهة السراج في غرب ليبيا، وهناك مَن يقول إنّ مصر يجب أن لا تدعم أياً من الجبهتين لأنّ كلتيهما يعمل لصالح قوى دولية ترغب في سرقة ونهب ثروات ليبيا.

لكن بالطبع لا يمكن أن تقف مصر متفرجة وحدودها الغربية مشتعلة هكذا، لأن ذلك يعد تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري، لذلك كان على مصر والرئيس عبد الفتاح السيسي أن يعلنا موقفاً واضحاً من الصراع الدائر على الأرض الليبية، وجاء التعامل باختيار أقلّ الضررين، فخليفة حفتر ورغم تحفظنا على تاريخه وأيضاً على مشاركته في الإطاحة بحكم معمر القذافي الذي حافظ على أمننا القومي المصري لما يزيد عن أربعة عقود كاملة، إلا أنه بالأساس كان جنرالاً بالجيش الليبي وحاول أن يلملم بقايا جيش معمر القذافي ليسيطر به على المنطقة الشرقية الليبية المتاخمة لحدود مصر.

في حين أنّ السراج الذي جاء أيضاً بواسطة الناتو وشارك في الإطاحة بمعمر القذافي فيعتمد بشكل أساسي على الجماعات التكفيرية الإرهابية المسلحة المتخندقة في طرابلس والغرب، وإذا ما حسم الصراع لصالحها مع خليفة حفتر ستجد مصر الإرهابيين على حدودها المترامية الأطراف مع ليبيا، لذلك قرّرت مصر دعم حفتر في مواجهة السراج ليس حباً في حفتر لكن حفاظاً على الأمن القومي المصري، فالمسافة من الحدود المصرية إلى بنغازي تقدّر بألف وثلاثمئة وخمسين كيلومتر مربع يؤمّنها حفتر لمصر ويبعد عنها شبح اقتراب الإرهابيين من حدودنا.

هذه هي حقيقة الموقف المصري من ليبيا الآن، وبالطبع ما نتمناه هو عودة ليبيا موحّدة، وهذه أمنية بعيدة المنال. فالقوى الدولية المتصارعة على سرقة ونهب ثروات ليبيا لن تجعل أياً من الجبهتين المتصارعتين تحسم الصراع لصالحها، لذلك كان قرار وقف إطلاق النيران بين الجبهتين والذهاب لحلول سياسية مؤشراً على رغبة القوى الدولية في إطالة أمد الأزمة الليبية لتستمر عمليات السرقة والنهب وليذهب الشعب الليبي للجحيم وليستمر أمننا القومي المصري مهدّداً من الجهة الغربية.

اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى