مقالات وآراء

وباء كورونا وأميركا: استنفار شامل وسط فوضى وإنكار*

بعد طول انتظار سمته التخبّط والفوضى والنكران، اضطر البيت الأبيض للتعامل مع تفشي وباء «كورونا» واتخاذ بعض الإجراءات الاحترازية للوقاية منه، وذلك في اليوم التالي لإعلان «منظمة الصحة الدولية» الوباء بتصنيفه جائحة تهدّد البشرية جمعاء.

وتراجع عقب ذلك منسوب الاهتمامات اليومية بالانتخابات التمهيدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري، وتتالت نداءات إلغاء التجمعات والمهرجانات الحزبية، ولا زالت تطبيقات الإجراءات الاحترازية سمة الحياة اليومية التي افتقدت حالتها الطبيعية وتوقفت معظم وسائل النقل الأرضية والجوية أسوة ببعض البلدان المنكوبة مثل إيطاليا.

 بيد انّ الإعلان الرسمي تخلّف زمنياً عن إجراءات طوارئ أقدمت عليها بعض الولايات الأميركية، نيويورك وواشنطن وكاليفورنيا، علّلته يومية «واشنطن بوست» بأنه نتاج إسناد الرئيس ترامب مهمة تتطلب الاختصاص العالي والمسؤول لشخص جاريد كوشنر الذي يفتقد المهنية والتخصص والمؤهلات سوى كونه زوج ابنته المفضلة. (15 آذار الحالي).

 في التفاصيل أيضاً، عقد كبار الخبراء الأميركيين، بدعوة من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، مؤتمراً الشهر الماضي ضمّ خبراء من دول أخرى عبر دائرة تلفزيون مغلقة، لتداول الآراء وسبل العلاج والإعداد للطوارئ والتقديرات حول أعداد الضحايا الأميركيين المرئية، انطلاقاً من فرضية انتشار الفايروس وإجراءات مواجهته.

 خلص اللقاء إلى تقدير علمي يصل إلى إصابة ما بين 160 – 214 مليون أميركي بفايروس كورونا وقد يمتدّ انتشاره لبضعة أشهر وربما سنة كاملة؛ بينما قدّرت عدد وفياته بين 200.000 إلى 1.7 مليون شخص. (نيويورك تايمز 13 آذار الحالي).

 وذهب أخصائيّي مراكز السيطرة CDC بالقول إنّ عدد الذين ينبغي معاينتهم وعلاجهم في المستشفيات قد يتراوح بين 2.4 مليون – 21 مليوناً. أما المأساة الكبرى فهي في عدد الأسرة اليسير التي تستطيع المستشفيات الأميركية استيعابها، 925.000، وفق الإحصائيات والبيانات المتوفرة والخاضعة لإشراف مراكز السيطرة في المحصّلة النهائية.

 إعلان منظمة الصحة العالمية رسمياً عن وباء كورونا يستدعي تلقائياً تبنّي برنامج تلقيح شامل وما يتطلبه من توفيره للمناطق المنكوبة عالمياً مجاناً، بمئات الملايين. اللقاح المضاد غير متوفر «تجارياً»، وأفضل التقديرات العلمية أنه لن يتوفر قبل 12-18 شهراً، على الرغم من تصريحات البيت الأبيض المفعمة بالتفاؤل وإسناده براءة اختراع اللقاح لمؤسّسات أميركية.

 على الشق المقابل، أعلنت الصين مطلع العام الحالي أنها اختارت دواءً كوبيّ المنشأ، Interferon Alpha B2 من بين 30 دواء لمكافحة تفشي الفايروس، من قبل لجنة الصحة الوطنية الصينية لعلاج حالة الجهاز التنفسي، نظراً لفعاليته في التجارب السابقة ضدّ الفايروسات ذات الخصائص المماثلة لفايروس كورونا.

 يشار إلى أنّ الصين وكوبا افتتحتا منشأة مشتركة،Chang Heber، لإنتاج الدواء في مدينة تشانغتشون بمقاطعة جيلين الصينية لإنتاج اللقاح الكوبي.

 عدم انتشار اللقاح الكوبي عالمياً، وفق أخصائيّي البيولوجيا الدقيقة، يعود لحسابات سياسية أميركية وإجراءات المقاطعة الصارمة لكوبا مما يحرم الأخيرة من السوق الدولية.

 في السياق عينه، كشفت الحكومة الألمانية عن مساعي حميمة من قبل البيت الأبيض والرئيس ترامب شخصياً «لإغواء» شركة ألمانية نشطة في مجال لقاح الفايروس، CureVac، إما بنقل مقرّاتها للولايات المتحدة مقابل مكافآت مالية ضخمة أو إيفاد الأخصائي الأكبر فيها للعمل «حصرياً» لصالح الولايات المتحدة وتسجيل المنتج كلقاح أميركي. (رويترز 15 آذار الحالي).

أصدرت شركة CureVac بياناً فى 11 آذار الحالي بأنّ رئيسها التنفيذى، دانييل مينيشيلا Menichella ، وهو مواطن أميركي، سيغادر الشركة بشكل غير متوقع وسيتمّ استبداله بمؤسّس الشركة، إنجمار هوير.

في مطلع شهر آذار وجه البيت الأبيض دعوة لمينيشيلا لزيارة واشنطن ومناقشة استراتيجية تطوير سريع وإنتاج لقاح فيروس كورونا مع فريق يضمّ الرئيس ترامب ونائبه مايك بنس، وفريق عمل البيت الأبيض لفايروس كورونا.

كشفت الأزمة الراهنة في أميركا عن ثغرات بنيوية ليس في معالجة المصابين فحسب، بل لناحية تصنيف أسباب الوفاة عند وقوعها وتبنّي الإرشادات الضرورية بناء عليها.

 مدير مراكز السيطرة على الأمراض، روبرت ريدفيلد، أقرّ في شهادته أمام الكونغرس، 11 آذار الحالي، أنّ عدداً من الوفيات من الفايروس تمّ تصنيفها «خطأً» تحت خانة الانفلونزا السنوية التي تحصد نحو 36 ألف مصاب في أميركاحسب البيانات الرسمية.

 وأثبت ريدفيلد خلال شهادته، بعد طول مماطلة ومراوغة عن الإجابة الصريحة، أنّ تصنيفات الوفيات من الأمراض المعدية ضمن خانة الإنفلونزا كانت سارية لعدة أشهر؛ وإرشادات مراكز الوقاية، CDC، للمستشفيات بأن لا تقدم على إجراءات فحص المريض من الفايروس إلا في الحالات القصوى.

 مدير المعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية، انثوني فاوسي، في جلسة الكونغرس عينها، شدّد على أنّ فايروس كورونا أشدّ فتكاً بالمريض بنسبة 10 أضعاف المصاب بالانفلونزا.

 البيت الأبيض من جانبه ولحسابات سياسية انتخابية لترامب أصدر توجيهات صارمة مؤخراً لكافة الهيئات الرسمية العاملة في مجال الصحة العامة بعدم الإدلاء بأيّ تصريح بهذا الخصوص قبل الرجوع للبيت الأبيض والحصول على تفويض بذلك.

 في الساعات الأخيرة لإعداد التقرير بين أيديكم، حثت بعض الوزارات الأميركية الرسمية موظفيها، في وقت متأخر من مساء الأحد، على البقاء في المنزل وعدم الحضور لمقراتها أو الأخرى البديلة لمدة لم تحدّدها بعد، كمؤشر على إعلان رسمي بإغلاق مرافق الدولة لمدة 14 يوماً، كما يعتقد.

 السردية الرسمية الأميركية، منذ إعلان الصين عن الوباء، سعت جاهدة لإلصاق انتشاره بفشل الإجراءات الصينية وانكشاف نظامها للرعاية الصحية، مقابل النظام الأميركي «الأول في العالم». بل ذهبت السردية لتبني الرئيس ترامب ونائبه مقولة إنه «وباء أجنبي»، كانعكاس للعقلية العنصرية والإقصائية السائدة في مفاصل النظام السياسي الأميركي برمته.

 منظمة الصحة العالمية هنأت الصين ولاحقاً إيران على نجاح الإجراءات المعتمدة لاحتواء ومعالجة الوباء، ولم تكترث لها رواية الإعلام الأميركي، رغم تأخرها زمنياً ووقائياً.

الآن، وعقب اتضاح حجم انتشار الوباء بسرعة فائقة داخل الأراضي الأميركية، وانكشاف قصور نظام الرعاية الصحية، باستثناء الشريحة الثرية الضيقة المستفيد الأول منه، فإنّ الولايات المتحدة أمام تحدّ شامل لم تعهده من قبل، بل كانت تتصرف بكيدية وغير مبالية بمعاناة الشعوب الأخرى ومستمرة بعقوباتها الإجرامية الأثر.

 الفارق الأساسي بنظرنا بين نجاح الصين وإيران وايطاليا، بالدرجة الأولى، في احتواء ومعالجة الفايروس بنتائج إيجابية يكمن في طبيعة التوجهات من مسؤولية الدولة المركزية وتجنيدها كافة القدرات والإمكانيات لمكافحة الوباء، وقد فعلت ذلك بشفافية عالية وفق إقرار منظمة الصحة العالمية؛ وبين نظام يُخضع الرعاية الصحية لحسابات الربح المادي ويوكل المسؤولية لبضع شركات ضخمة فشلت في المهمة قبل أن تبدأ، وتكشفت حقيقة توطين منتجاتها في الخارج سعياً وراء الربح.

 بيانات إنتاج العقاقير والأدوية الأميركية تشير إلى ما لا يقلّ عن 80% من مكونات الأدوية المصنعة، بالإضافة للمعدات الطبية، مصدرها الصين. بل أنّ اعتماد السوق الأميركية على منتجات المضادات الحيوية من الصين يقارب نحو 90%.

 من المرجح أيضاً أن تتسع دائرة الانتقادات الجادة لغياب دور الدولة في ظلّ المناخ الانتخابي الراهن، بين فريقي المؤسسة الحاكمة قد تقدِم المراكز الرأسمالية على بعض التنازلات الشكلية درءاً لعاصفة الانتخابات، لكنها لن تمسّ جوهر النظام كما هي العادة.

في البعد الاقتصادي وما خبره القطاع المصرفي والأسهم الأميركي من خسارة متواصلة، قبل إعلان الرئيس ترامب عن إجراءاته الاحترازية، تسود الخشية بين أوساط المصالح التجارية الكبرى من ركود اقتصادي نتيجة فايروس كورونا بعد إلغاء الفعاليات وإغلاق المدارس والمرافق الرسمية في إطار جهود مكافحة انتشاره

*مركز الدراسات الأميركية والعربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى