أخيرة

هل تجرّد العالم من الإنسانية؟

} لواء العريضي

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في القرن الماضي، أخذ العالم يسير نحو العولمة، كاسراً الحواجز بين البلدان والأمم، محطماً الفوارق العرقية والدينية، داحضاً أهمية المقامات الاجتماعية والاقتصادية، واعداً بقرية عالمية تسودها المشاعر العالمية الواحدة والعقلية الموحّدة التي تواجه المخاطر المحدقة بالإنسان لا سيّما التي تهدّد وجوده. فكرة جميلة رنّانة منمّقة تسرق القلوب وتزرع الأمل بغد جديد نتمنّاه لأطفالنا. هكذا ادّعوا! وهكذا صدّق البعض منّا، وأخذوا يدافعون عن نواياهم ويعملون معهم لتحقيق هدفهم «السامي»، فوصلت الأمور للتحالف معهم والتآمر برفقتهم على شعبنا ومصالحه وصولاً لمصلحة الإنسانية العليا كما يدّعون.

ماذا حصدنا من هذه الوعود؟ غير الديون وضيق المعيشة والعذاب، ناهيك عن الحروب والموت والدمار وضياع الهوية وتشتّت الأحلام! ما هو معيار تقدّمنا وما مدى فعاليته؟ أين نحن من بقية العالم؟ ان كان حسب نواياكم ترزقون، أنظروا بماذا رُزقنا. كان المشروع «إلغاء الحواجز والحدود» وأصبح اليوم «ما أنجس هذه الوعود».

إنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يتضمّن حقوق الإنسان الأساسية التي يتعيّن حمايتها عالمياً وتنصّ المادّة الأولى منه على أنه «يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء»، يمثّل الدستور العالمي الإنساني الذي يجب احترامه وتطبيقه، دون الحاجة الى قرية عالمية أو ما شابه.

بإسم هذا الإعلان، أو اذا صحَّ القول، تنكّراً لهذا الإعلان وبقناع الخوف على الإنسانية، شُنّت حروب كثيرة. أنتجت قتلاً ودماراً وتشرّداً، وأفنت الإنسانية باسم الإنسانية. ورغم فظاعت نتائج «نشر الإنسانية والديمقراطية» ما انفكّ البعض عن الإيمان بهذا العالم الجديد.

لكن ها نحن اليوم نواجه خطراً جدّياً من نوع آخر، خطرٌ «مُعَوْلَم» لا فرق عنده بين إنسان وأخيه. وبما أننا تعوّدنا على الاستهلاك والاستهلاك فقط، ننتظر بشغف وصول العلماء والشركات الطبية والعلمية لدواء أو مضادّ للفيروس الخطير السريع الانتشار. وهنا كانت الدهشة من تصرّف بعض دول العولمة. سبعون عاماً من نشر مبادئ الحياة الجديدة قضى عليها عدوٌّ مجهريّ. وبسحر ساحر أخذت الحدود تنكمش من جديد. حتى وصل الأمر إلى تصريح رئيس الولايات المتحدة الأميركية أنه اذا توصّل للعلاج سيبقيه حكراً للأميركيين! عن الأخلاق نتكلّم! فلا أصحّ من قول سعاده في هذا الشأن «كلّ نظام يحتاجُ إلى الأخلاق، بل إنّ الأخلاق هي في صميم كلّ نظام يمكن أن يُكتبَ له أن يبقى»، وغداً لناظره قريب.

هذه الأنانية الليبرالية التي تفسّر نفسها بحريّة الفرد والجماعة هاربةً من كلّ معايير الإنسانية تتفشّى ليس فقط في معظم الدول بل في أفراد مجتمعنا أيضاً. فكم من تجّار أزمات قد رأيناهم يجدون ازدهارهم على حساب الفقراء والمحتاجين ويحتكرون الخدمات بغية الربح المادّي في الأوضاع الحرجة. للأسف في مجتمعنا باتت الحريّة الفرديّة لا تعرف حدوداً.

والأكثر إثماً هي العنصرية المقيتة التي نشهدها وتنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي إنْ كان عند وصول المرض من الخارج أو عند تسجيل أيّ حالة جديدة. حينها تنهال التحليلات عن الخلفيات الطائفية والعشائرية وكأنّ من أصابه المرض كان يبغيه لنفسه ليتآمر على من لا يؤمن بما ورائياته! عن الإنسانية نتكلّم! هذا الخبث الاجتماعي راهنّا على زواله وأقلها عند النكبات والمصائب. ولكن للأسف يبدو أنّ رهاننا خاسر رغم بصيص الأمل الخجول.

لا ملامة إلا على أنفسنا بما حلّ بنا. بتنا نقتبس الأخلاق من الخارج ونسينا أننا من أرسى الأخلاق في العالم أجمع، فالويل لمن يبدّل أخلاقه ظنّاً منه أنّ فيها يرتقي. أصبحنا نفتخر بقدراتنا في إدارة الأعمال والشركات واتجهنا للاستثمار المادّي وتناسينا الاستثمار العلمي، نتبجّح بالتبرّع لبناء بيوت الله ونسينا بناء بيوتنا. لو أننا اعتمدنا معادلة بناء مركز تطوير علمي عند بناء كلّ خمسين جامع وكنيسة، كنا لمسنا تطوّراً معيّناً ولو كان قليلاً، كنا كسِبنا عمارات مأهولة تعجّ بالباحثين لخدمة المجتمع بدلاً من أبنية جميلة بهيّة الزخرفة حتى الأماني أبت أن تسكنها عند الخطر. أقنعونا بعولمتهم وأصبحنا نعتمد عليهم بإمدادنا بالتكنولوجيا والغذاء، صرنا شعباً يدمن الاستهلاك يعيش في العالم الثالث يخمر على فُتات خبز الدول المتطورة. وهذه الدول اليوم أولويتها شعبها، فمن أين نأتي بفتات خبزنا؟

 عبد الإنسان إله المال ونسي إلهنا اله المحبة الكامنة بالفطرة في قلوبنا. وهذا ما أوصلنا اليه هذا العالم الجديد، هكذا رسموه وهكذا أنتج الإنسان الجديد، فبهدف «خدمة الإنسانية» ضاعت الإنسانية.

رغم كلّ ما تقدّم، ما زلنا نرى بصيص أمل بأولئك الشبان والشابات الذين تطوّعوا مع الجمعيات والبلديات غير آبهين لأيّ فارق اجتماعي أو طائفي، وعدوا أنفسهم بمعاملة الإنسان على قاعدة أنّ كلنا سواسية ولا فرق بيننا إلّا بالأسماء. أنظروا اليهم ينشرون الوعي والإرشادات علّ حفنة صغيرة من هؤلاء المقاتلين يرفعون ذنب أمةً ويردّون عنها خبث الحاقدين ويعلّمون العالم أجمع معنى الإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى