المنطقة والعالم إلى تسويات منتصف الطريق
ناصر قنديل
– لا ينتبه الذين يتحدّثون عن مخاطر حروب جديدة تنتظر المنطقة، وربما العالم، إلى حجم التحوّل الذي فرضته جائحة كورونا على الأوضاع الدولية والإقليمية، فيوماً بعد يوم يترجل المتحمّسون لمواصلة العنتريات العسكرية في إدارة الرئيس الميركي دونالد ترامب عن جدول أعمال حربي لحساب الحديث عن الردع إذا تعرّضت قواتهم للاستهداف، وبالمثل يقف خصوم المشروع الأميركي ورافضي التمركز الأميركي في المنطقة عند ضفة جديدة، تسحب من التداول جدول أعمال تنفيذي وميداني لإخراج الأميركيين، لحساب خطاب الردع في حال أقدم الأميركيون على التصعيد، وتعود هذه التحوّلات إلى مصدرين واضحين، الأول الثقة العميقة في مركز صنع القرار الأميركي بأن مناخ كورونا وفر الفرصة لتفادي الوقوع في حروب استنزاف ستنتهي على طريقة أفغانستان بالانسحاب، ليفتح باب التراجع عن التصعيد وفتح باب التسويات. وعلى الضفة المقابلة، فرضت أولوية مواجهة كورونا على حكومات المنطقة وقواها الشعبية التأقلم مع حقيقة تكوينها الشعبي ومسؤوليتها الوطنية، وبالتالي التعايش مع فرضية الانسحاب الأميركي البارد وتسهيله، تحت سقوف تسويات محلية تتيح الطريق لتحقيق هذا الهدف.
– عندما تنشأ ظروف للتساكن البارد، على خلفيّة أفق نهائي معلوم هو الانسحاب الأميركي، ينفتح الباب العراقي على مشروع تسوية حكومية يبدو واضحاً تتقدم حظوظه مع تقدّم اسم مدير المخابرات مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو منسّق العلاقة الأميركية الإيرانية في العراق لسنوات بتراضي الطرفين، وقد عادت أسهمه ترتفع منذ زيارة رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني الجنرال علي شمخاني إلى بغداد قبل شهر. وبالتوازي يظهر الوجود الأميركي في سورية مشلولاً بلا وظيفة، وتبدو الانسحابات من مواقع حساسة عراقياً تمهيداً لإقفال ملف الوجود في سورية، بسبب انكشاف هذه المواقع عسكرياً إذا اكتملت عمليات الإخلاء لمواقع أميركية في العراق تشكل قاعدة خلفية لنقاط التمركز في سورية. ويبدو القلق من انتشار فيروس كورونا بين الجنود الأميركيين حاضراً في تسريع التجميع والانسحاب، كما يبدو عجز الجهات الكردية التي تعمل تحت الراية الأميركية شرق سورية عن التعامل مع مخاطر كورونا مدخلاً طبيعياً لفتح الباب لتسويات محلية تهيئ الظروف لعودة هذه المناطق إلى عهدة الدولة السورية. ولا يبدو الوضع في مناطق التمركز التركي مختلفاً مع تقدم تركيا إلى المركز العالمي التاسع بين الدول التي يتفشى فيها الوباء، وحجم التهديد الذي يلقاه الجنود الأتراك من مخاطر التفشي، وهشاشة البنى الملتحقة بالأتراك وعجزها عن احتواء مخاطر تفشي الفيروس.
– في اليمن يبدو السعي لوقف شامل لإطلاق النار وتبادل مجموعات من الأسرى على نار حامية، وتشير المعلومات إلى تحقيق تقدم كبير على هذا الصعيد، مع عجز النظام الحاكم في الرياض عن مواصلة خوض الحربين دفعة واحدة، حرب كورونا وحرب اليمن. وقد صارت التهديدات للأمن السعودي بسبب حرب اليمن فوق قدرته على الاحتواء والتحمل، بينما لم يعد لدى الأميركي ما يجعله يتحمل المماطلة السعودية في السعي لتسوية سياسية تنهي حرب الاستنزاف، بل ربما لم يعد الأميركي حاضراً لتقديم الحضانة التي يحتاجها السعودي لمواصلة الحرب في أكثر من مجال وعلى أكثر من صعيد، وقد تغيّرت الأولويات.
– التسويات ووقف الحروب، في كثير من الأحيان تكون ناضجة في العمق، لكن ثمنها السياسي والمعنوي يدفع بأصحاب الحرب لمواصلتها بسبب عجزهم عن الإقدام على التسوية، أو عجزهم عن تبرير وقف الحرب دون إنجاز أو انتصار بعدما رفعوا سقوفهم عالياً، فتقع أحداث كبرى كالطوفان والزلزال والوباء والانهيارات المالية، وفي بلدان ديمقراطية تكون الفضائح الحكوميّة أو الهزات الحزبية والسياسية، فتخلق المبرّر الذي يتيح تظهير هذا النضج الكامن لمنطق التسويات، ولا يبدو هذا بعيداً عن توصيف ما يجري وما سيجري على مسرح المنطقة، والعالم أيضاً.