ثقافة وفنون

من تحت عتبة «رواية»… الأنا الساردة تسدّد هدفها!

} طلال مرتضى*

 

ثمّة حلقة مفقودة يتوقف عندها القارئ العليم قبل أن يضع نقطة نهاية السطر ليتساءل عما أرادته الكاتبة السورية دعد ديب وفي منجزها الموسوم «وتترنّح الأرض» عندما تركت كلمة (رواية) على الغلاف؟

هذا السؤال لم يكن ليطرحه قارئ ما من خارج لعبة الكتابة، فالنسبة له ـ أي القارئ ـ حقق شرط حكايته حين قرأ المنجز من ألفه العامرة إلى يائه الغامرة وتلك غاية ومأرب لكل منا، ولكن حين يكون القارئ عارفاً فإنها وكما أشرت لا يستطيع المرور سريعاً من دون ترك نقاط علام تودي به نحو الكوامن المخبوءة داخل تفاصيل الحبر..

بعيداً عن قصة كلمة «رواية» والتي اتخذتُها مفتاحاً لمقالتي هذه ومن باب معرفتي الحميمة بالناقدة العارفة دعد ديب قبل الروائية، توقفت عند هذه العتبة لكونهاأي دعدتعرف بأنها تركت على الورق حبراً عابراً للأجناس ولا يمكن تعتيبه تحت أي مسمّى كتابي، فهو ذو مرجع سردي وشعرية عالية ومحمل على مقولات غاية العمق في مدلولاتها الفلسفية والكثير.. الكثير الذي يحتمله نصها الكتابي من ممكنات التأويل والشبهات معاً. من هنا جاء الوقوف والمعارضة عند كلمة رواية..

بسليقة القراءة أعرف تماماً بأن العمل الروائي الكامل غالباً ما يقوم على ثلاث قوائم إن صح المقال، وهي الحدث وفعالية السرد واللغة، فعندما تتعالق تلك القوائم معاً وفي بوتقة واحدة، لا بد لنا أن نشهد بأننا وقعنا في فخّ نصّ محكم ومكين..

وهذا الكلام كلّه لا ينفي أن يقوم العمل الروائي على قائمة واحدة مما ذكرت لكنه يبقى ملتبساً في ذهنية القارئ أو مشتبهاً به عند الناقد..

أشي بأن ديب نهجت في حكايتها نحو الدرب الذي عبر منه كبيرنا «عبد الرحمن منيف» في مرويته الذائعة الصيت «حين تركنا الجسر» تلك المروية التي أسقط منها منيف شرط الحدث وقيامة السرد الشائق حين حملها على قائم اللغة وحده، وقد نجح بالفعل حين جرّني وراءه وبعبثية حد سماعي للهاثي القرائي على غير توقف، يدفعني فضولي القرائي الذي يبحث عن توت لذة القراءة والقبض على خواتيم كل ما هو ممهور بكلمة رواية، للوقوف على ما تفضي إليه تلك القفلة اللعينة. لأجدني في النهاية أقف على حقيقة هوية الكاتب الذي أخذني معه إلى البحر ولم يترك لي فرصة بأن أتجرّع شربة ماء. وهنا لا أستطيع أن أنفي بأنها لعبة وغواية الكاتب التي تصيب مقتل القارئ بالدهشة.

فيما لو أردت مقاربة ما قرأته في «وتترنّح الأرض» مع أي جنس أدبي فأنني أشي بأن الكاتبة ذهبت نحو ما يطلق عليه «سرديات الذات» فهي تركت لنا على الورق سرديات شائقة ذهبت إشاراتها نحو أقصية تخصها وحدها، ولكنها في لحظة الكتابة تركت أناها الكاتبة تشير لنا نحو جهة تلك الأقصية ومن تحت حجاب التعمية الكتابية التي تجيدها الكاتب والتي كانت تزيحها لنا بمقولات غاية العمق في الفلسفة والاستنباط، فهي استعملت ذات الأداة الكتابية التي غالباً ما نستعملها ككتاب، الأداة التي نتلطى بها من شرور القارئ العارف والناقد المارق، حين نذهب لتعتيب منجزاتنا الكتابية بمقولة ساذجة تدلي وبتصرف «أن تشكيل الأشخاص في الرواية وإن تطابقت مع الواقع أو تشابه فهو ليس أكثر من تخيّل كاتب أو محض مصادفة»..

دعد ديب الكاتبة لم تنهج ما نهجنا إليه بل أرادت ترسم خطّاً يخصّها وحدها في هذا المجال، فهي لم ترد الاختباء وراء ظل إصبعها، ذهبت مباشرة نحو تأثيث أسماء بعينها لتبوح وتخبر القارئ عن فحوى الحكاية، تلك الفعالية الكتابية تعادل الفعالية ذاتها أعلاها، فهي استطاعت خلق واستنطاق تلك الشخوص وببراعة، ولكنها لم تستطع كتم أنا دعد الساردة من أن تطل من زاوية غائرة لتراقب، هل هي أصابت عين القارئ وقلبه. وهنا تأتي مقولة الكبير ميشيل فوكو إسقاطاً حقيقياً لكل ما تقدّم حينما قال: «الذات الإبداعيّة الساردة تريد هنا أن تتدفق ولكنها تخشى أن تتم المطابقة الحرفيَّة في الإحالات إلى عوالمها الحقيقية المرجعية».

أقول وبعيداً عن مقولة تجنيس نصّها بأنها بالفعل استطاعت تمرير كل ما أرادت تمريره من أهداف في مرمى القارئ وبيسر، لكون الأخير وقع بإرادته القرائية طوعاً عندما صمت لينصت بإمعان إلى الأصوات التي كانت تتعالى من داخل النص الكتابي، فممدوح هو أنا وزبيدة هي أنت التي نعايشها كحال واقع لا يمكن الفكاك منه تحت أي اعتبار.

 

*دعد ديب كاتبة وناقدة سورية تكتب في العدد من الصحف والمجلات العربية ولها مقولات نقدية مهمة وخاصة بها.

*كاتب عربي/ فيينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى