ثقافة وفنون

الأحمر غالب في لوحات التشكيليّة النمساوية إرنستين هايدينكومر… كثافة عاطفة أنثوية أم طفرة غضب!؟

} طلال مرتضى*

ثمة تجربة فنّية مغايرة هذه المرّة لا بدّ من التفكير طويلاً وعميقاً قبل الولوج إلى دواخلها لاستنباط ما هو مخبوء في المضامين التي تركت أثرها الجليّ والساطع فوق بياض القماش الغارق في العطش..

من هنا أبين، بعد تجربتي القرائية المتواضعة لعدد جيد من الفنانات التشكيليات النمساويات، الفارق الجليّ بين هذه التجربة وبين التجارب الأخرى والتي تتكئ في قيامتها على الألوان المائية والتي أطلق عليها في الكثير من مقالاتي، بالألوان الهادئة كاللون الزهري والبرتقالي والليموني والبنفسجي وغيرها، نظراً لذوبانها في العين حين التأمّل. وهنا أرجح مصدرها إلى بيئة بلاد الشام وهي متداولة هناك بكثرة. ولست أدري هل يعود استعمال تلك الألوان من قبل تلك النسوة لكونها، أي الألوان الهادئة تكنّها روح الأنثى في تفاصيلها أم هي طبيعة المكان الذي يعشن به للمقاربة (النمسا) حيث خلابة الطبيعة.

التجربة التي أودّ تناولها ومشاركتها وإياكم هي بالتأكيد مميزة ومغايرة عما تحدثت عنه أعلاه لكونها تجربة غارقة في بحر الزيت، «الألوان الزيتية» ومن المعروف أن هذه الألوان لها خاصية المزاجية وصعوبة المراس.

الفنانة النمساوية «إرنستين هايدينكومر» (Ernestine Haidenkummer) تذهب في رحلتها الفنية نحو أقصية خارج حدود بلادها، وهذا ما جعلها تحلّق خارج سرب مثيلاتها من الفنانات النمساويات.

فيما لو دققنا النظر عميقاً في تجربتها نتلمّس أنها انزاحت نحو ما يطلق عليه بالفنّ التكعيبي، وهذا واضح وبشكل واضح مدى تأثرها به من خلال ما تركته لنا على القماش والورق، وتجدر الإشارة إلى أن الفن التكعيبي له خواص يتفرّد بها عما سواه من الفنون التشكيلية الأخرى، تلك الخصوصية التي قامت على خطين فنيين، الأول لوني والثاني ذو بعد حسّي فلسفي. فالأول يعتمد في حضوره على اللون الأساس، لون الزيت، اللون الذي تداوله في الحياة اليومية كالأحمر والأزرق والأصفر، إلخ..

أما الثاني فهو يخالف المذاهب والمدارس الفنّية الأخرى من حيث التشكيل المرئي في عين المتلقي. فالتكعيبي على سبيل المثال لا يهتم بالملامح الحقيقية للوجوه، فهو مبني على شكل مكعبات متباينة ومتداخلة بالإضافة إلى أنه يرى تلك الوجوه من دواخلها وليس من ملمحها الخارجي.

وهذا ما قادني للاستنتاج، هل هذا كسر لمقولة الآية القرآنية الكريمة، «سيماهم في وجوههم» التي تبين علامات الوقار والتواضع والحسن من خلال قراءة ملامح الوجه. وبالتأكيد هذا موضوع شائك ومثير للجدل بقدر ما هو شائق عندما نذهب للتحليل النقدي وللمفارقة.

سأجدني على شفا نقيضين وذلك عندما أعود إلى مدرسة الكتابة الرومانسيةالكلاسيكية من خلال أحد رموزها البارزين فيكتور هوجو الفرنساويّ الذي كتب مرويّة أحدب نوتردام الشهيرة لأستنتج إلى أنني أرى كأن التكعيبيين والكلاسيكيين شربوا من منهل واحد، فالتكعيبيون ذهبوا لإظهار الجماليات الداخلية وكذلك هوغو الذي برع بتشكيل شخصية الأحدب الظاهرية الغارقة في البشاعة والدمامة لدرجة مخيفة على عكس داخله الذي تتسم بالطيبة والروح العاشقة والمسالمة!

وهنا أترك هذه المفارقة برسم القارئ ليبدي انحيازه ووجهة نظره في هذا المجال..

من دون أدنى أي شكّ لا يمكن نكران تأثر التشكيلية النمساوية «إرنستين هايدينكومر» بيكاسو ومواطنه جورج براك وذلك من خلال اتكاء أعمالها الفنية على نوع من أنواع الفن التكعيبيّ، ألا وهو الفن التكعيبي الاصطناعي والذي يخالف تماماً التحليلي، «حيث يعتمد الاصطناعي على الألوان الأكثر صخباً وإشراقاً وأسهم بإدخال رموز وأشكال ومواد أخرى في العمل الفنّي».

لكن وبالمعاينة الحثيثة يجد القارئ بأن «إرنستين هايدينكومر» بالفعل حافظت على شرط هذا النوع الذي انتهجته، لكنها عملت على ترك بصمة تخصها، فهي اعتمدت على الفن التكعيبي كأساس لعملها الفني، ولكنها أظهرت ملامح عدة تخالفه، وأعزو هذا إلى أنها أرادت أن تؤصل منتجها الفني بهويتها هي وكي لا يبدو منسوخاً، ويمكن للرائي أن يلتقط هذا من دون عناء عبر الإشارات الناعمة التي تركتها داخل كل لوحة، كطريقة رسم العيون وإعادة تشكيل جسد المرأة بطريقة تحسَب لها، فهي بالنهاية أنثى ولا يمكنها التفريط بهذه الخاصية لحساب العمل الفني أو هذا النوع من الفن الذي يغلب عليه طابع الرجولة، لكون أكثر روّاده من الرجال.

«إرنستين هايدينكومر» قدّمت فناً عميقاً وخطيراً في الوقت ذاته، فمن الناحية الفنيّة أشير إلى أن العمل بألوان الزيت يحتاج إلى جرأة كبيرة. عدا أنه يحتاج إلى يد ثابتة.. ومن الزوايا المهمة في فنّها والتي تتجلّى باستعمالها للون الأحمر وبكثافة لافتة، تدخل الشك في عين الرائي ليتوه في تبيان دلالة اللون بالسؤال، هل هو فائض لعاطفة أنثوية متفجرة أم طمي لحالة غضب؟فهذا السؤال لم يأتِ من الهباء، بل جاء بعد معاينة دقيقة للوحات، حيث إنها أعطت لهذا اللون متسعاً أكثر وأكبر عما سواه وخصوصاً عندما يلتقي مع الأبيض أو الأزرق أو الأصفر الذي يحاكي الصفاء والتأمّل والدفء والسكون..

ثمة شيء آخر لفت انتباهي عند وقوفي أمام لوحات تشكيلية لجسد المرأة الكلي وبتفاصيله الدقيقة وعلى الرغم من استعمالها الألوان الساطعة، فأنني وجدت هذه الرسوم لا تأخذ الرائي نحو مواطن الإثارة والرغبة، وهذه نقطة مهمة وعلامة فارغة تضاف لرصيدها، لكون الفتنة وحسب رأيي تحرف النقد عن مساره.

ولا بدّ من إضافة تالية يجب التنويه إليها، وهي أن «إرنستين هايدينكومر» لم يتوقف دورها كفنانة عند تعليق اللوحة على الجدار ليُصار إلى معاينتها من قبل جمهور نخبوي فقط، بل ذهبت إلى اشتغال آخر، صناعة مجسّمات أشبه بالمسلات أو الأهرامات حملتها رسومها ليصادفها العامة على نواصي شوارع المدينة وفي الحدائق وأمام المباني الأثرية والحكومية في مدينتها، فكرّست بذلك جماهيرية لفنها.

* كاتب عربي/ فيينا

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى