نقاط على الحروف

دروس عراقيّة للبنان

 ناصر قنديل

مهما تحدثنا عن حجم الحضور الأميركي في لبنان فهو أقلّ منه بالقياس للعراق، حيث ولد العراق السياسي الجديد من رحم الاحتلال الأميركي، وحيث قوات أميركية بالآلاف مقيمة في العراق. وبالتوازي مهما تحدّث الكثيرون عن نفوذ إيراني في لبنان فهو مجرد استنتاج منسوب لعلاقة مميزة تربط إيران بشريحة لبنانية واسعة لها تاريخ مشرّف في تحرير لبنان من الاحتلال، مقارنة بحضور إيراني مباشر تجسد بحضور عسكري في مرحلة المواجهة مع داعش، وجوار جغرافي إيراني للعراق يلقي بظلاله وحضوره الديمغرافي والديني والاقتصادي والأمني، منذ قرون. ومهما تحدثنا عن مواجهة أميركية إيرانية في لبنان فهي دون مستوى التوتر والاشتباك الذي مثلته مرحلة اغتيال الأميركيين لقائد فيلق القدس الإيراني في العاصمة العراقية، وقصف إيران الصاروخي لمواقع أميركية في قاعدة عين الأسد العراقية. وعندما ينجح العراقيون بتحقيق تضامن سياسي من خلال الوقوف خلف حكومة يعرف الجميع، أن ليس فيها فرص ربح سياسي ومصلحي، بل محاولة عبور بالعراق من النفق المظلم، ونفشل في لبنان بمجرد عقد لقاء حوار وطني، فالسبب ليس قطعاً الدور الأميركي ولا الحضور الإيراني، ولا الاشتباك الأميركي الإيراني.

كذلك مهما تحدثنا عن عناصر الخلاف والانقسام اللبنانية، وأعدناها لتكوين طائفي ومذهبي للقوى السياسية، ومحاصصة طائفية في النظام السياسي، ومرجعيات إقليمية ودولية لهذا الانقسام، فسيكون من السهل اكتشاف أن الحال في العراق أشدّ تشظياً في الداخل وتبعية للخارج. ففي العراق صيغة حكم بلغ حد تشريع الانقسام في الدستور عبر الفدرالية، ومكوّن رئيسي يمثله الأكراد لا تربطه اليوم بالصيغة المركزية للدولة إلا شعرة، وتجاذب مذهبي بين المكونين الإسلاميين الرئيسيين، بلغ حد مواجهات شعبية وسياسية شكلت لاحقاً بيئة مباشرة لسيطرة تنظيم داعش، تحت عنوان غبن طائفي وحقوق طائفية، وتكفي نظرة على المواقف المعلنة للقوى العراقية حول العلاقات الخارجيّة، والمجاهرة بمرجعيات الخارج، ومقارنتها بلبنان، لنعرف أن عمق الانقسام الداخلي وحجم ارتباطه بالخارج الإقليمي والدولي، لا يفسّر الفشل اللبناني حيث نجح العراقيون.

إذا انتقلنا للجانب الاقتصاديّ، فمهما تحدّثنا عن الهدر والفساد في لبنان، وعائدات المحاصصات السياسية والاقتصادية وتقاسم المنافع، فلن تفسّر لنا حال الفشل في ملاقاة الحاجة لحد أدنى من التضامن يفصل بين الوطني والسياسي، قياساً بحال العراق حيث موارد نفطية تعادل تريليون دولار جرى إهدارها، وتقاسمها، مع فقر مدقع يطال ملايين العراقيين، ومئات آلاف المهجرين بلا مأوى، وبنية تحتية لا تشبه أشد أرياف لبنان حرماناً، وفي الكهرباء والمياه حدث ولا حرج. فلولا الكهرباء المستجرّة من إيران بموافقة أميركية، لكان العراق في الظلمة، ورغم ذلك تفوق العراقيون على أنفسهم وجمدوا صراعاتهم، وانقساماتهم، ولو إلى حين، ولو بتهدئة مؤقتة، بينما نحن فشلنا.

دروس العراق تقول للبنان واللبنانيين كفى، عبر مثال الاستثناء الأميركي للعراق من العقوبات في استجرار الغاز والكهرباء من إيران، وهو ما يمكن للبنان الحصول على مثله لتشغيل أنبوب النفط الآتي من كركوك إلى طرابلس عبر سورية، وتقول الدروس إن تذرعنا بالعوامل الخارجية مبالغة رغم ثقل حضورها، وتقول إن تذرعنا بالأسباب الطائفية للانقسام هروب من المسؤولية رغم بشاعة نظامها وإفلاسه، وتقول إن وطأة الفساد وشبكة منافع المحاصصة رغم الاشمئزاز الذي يثيره مجرد الحديث عنها، لا تكفي لتفسير الإفلاس السياسي الذي نعيشه على مستوى القدرة في إدراك أننا نغرق وأن لا مكان لفرقة ناجية بيننا، ما لم نتضامن ونوحّد جهودنا لعبور العاصفة، وأننا نعلم بأن ما أمامنا من أهوال اليوم ليس إلا مجرد بداية لما هو آتٍ من ويلات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى