أولى

السلم الاجتماعيّ في الشوف ميزان الصحة السياسيّة

البروفسور فريد البستاني*

 

نصت مقدمة الدستور على أن «لا شرعية لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك «، وهذا لا يخصّ السلطات المنبثقة من النظام الطائفي، بل هو شرط واجب وحاكم في السلطات المنبثقة من نظام غير طائفي نصبو إليه بدعوتنا للدولة المدنية، لأن الدولة المدنية التي تناقض ميثاق العيش المشترك هي دولة الهيمنة الطائفية مقنعة بلبوس اللاطائفية، وبالتالي فهي أشد خطراً على السلم الأهلي من الطائفية الظاهرة، وتناقضها مع ميثاق العيش المشترك أشد وأدهى.

تاريخ لبنان يقول أيضاً إن الحركات الإصلاحية والثورات، تخضع للقانون ذاته، فكل ثورة وحركة إصلاحيّة ناقضت ميثاق العيش المشترك تحوّلت إلى فتنة وحرب أهليّة، ضاع معها كل سعي للإصلاح. ومن يقرأ مقدمات ما جرى في لبنان عامي 58 و75 سيكتشف ذلك بسهولة، بينما من يقرأ تجربة الحركة الإصلاحية للجبهة الوطنية اللبنانية التي قادها الراحلان الرئيس كميل شمعون والوزير كمال جنبلاط بوجه الرئيس بشارة الخوري عام 52، سيكتشف أنها حققت أهدافها لأنها لم تناقض ميثاق العيش المشترك.

المؤمنون بالدولة المدنية هم أشدّ الناس تحسساً لمخاطر الانزلاق الطائفي، ولا يجوز أن يشكل إيمانهم اللاطائفي عيباً عليهم لدى مقاربة الحساسيات الطائفية، أو قيداً على سعيهم لتبريد النزاعات الطائفية، فتلك رسالتهم حتى يبقى مكان للسياسة بعيداً عن انفجار العصبيات والغرائز التي لا مكان معها للعقل. والعصبيات والغرائز مدمرة حتى لو أنتجت صيرورتها انتصاراً للدولة المدنية، فهي تفعل ذلك لتعجّل موتها وتحفر قبرها.

ثورة اللاطائفيين تحت شعار «كلن يعني كلن» ظالمة لمساواتها بين غير مستاوين، وحالمة لأنها لا تملك موازين القيام بثورة، ولا تكبر موازينها إلا بتمويه الطائفيين بين صفوفها لمآرب غير مآربها، يستعملونها من الداخل، حتى تسقط في الفتنة من الخارج.

الأمل الوحيد للإصلاح في بلد كلبنان، لا يزال بأن تقوم به الدولة نفسها فتغير قواعد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكي يحدث هذا الإصلاح ويؤدي أغراضه وجب أن لا يناقض ميثاق العيش المشترك، فماذا يعني ذلك؟

في عامي 58 و75 قاد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب ثم الوزير كمال جنبلاط ثورتين، فقدتا الحضور المسيحي الذي يحول وجوده دون تناقضها مع ميثاق العيش المشترك فسقطت الثورتان في الحرب الأهلية، وضاعت أهدافهما الإصلاحية، بخلاف ثورة الـ 52، وما نخشاه أن يحدث اليوم شيء مشابه مع تبادل في الأدوار، فتقود سلطة على رأسها زعيم إصلاحي كبير هو الرئيس العماد ميشال عون مسعى الإصلاح، وهي تستند إلى ثقل مسيحي وشيعي، وتفتقد إلى ثقل موازٍ بين السنة والدروز، فتقع في فخ التناقض مع ميثاق العيش المشترك.

لذلك كان لدعوة الرئيس ميشال عون للقاء بعبدا لمناقشة الخطة الاقتصادية، وقبلها لدعوته رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الوزير وليد جنبلاط لزيارة القصر الجمهوري، موقعاً أكبر بكثير من معنى الدعوتين سياسياً، بما هما تعبير عن إدراك لخطورة الانزلاق نحو التجاذب الطائفي، الذي سيتكفل بالقضاء على كل فرص للإصلاح والتقدم.

إن الاكتفاء بجعل السياسة مجرد مسايرة للأوضاع والحسابات الطائفية لا ينتج إلا نظام الفساد والمحاصصة، وإدارة الظهر لهذه الأوضاع والحسابات ينتج تحويل كل إصلاح إلى فتنة طائفيّة، والمسؤولية الوطنية، كما ذكاء السياسة، يتحققان بالجمع بين الإصلاح وميثاق العيش المشترك، وتحمل بطء الإصلاح بوضع شرطه الميثاقي موازياً له، لأن السرعة هنا هي سرعة سقوط في الحفرة، التي جربناها مراراً، ومن غير المسموح لنا أن نعيد الكرة، ونحن في حفرة الانهيار المالي والاقتصادي.

يبقى جبل لبنان والشوف بصورة خاصة الميزان الذي نقرأ فيه الحالة الصحية للسياسة اللبنانية بمعزل عن الولاءات والخيارات. فالسلم الاجتماعي في الشوف يجب أن يبقى خطاً أحمر كي يبقى للسياسة مكان في لبنان.

 

*عضو في مجلس النواب اللبنانيّ.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى