نقاط على الحروف

نحو قراءة نقديّة لمسار مواجهة الأزمة

 ناصر قنديل

 

كثيراً ما يُطرح السؤال داخل قوى المقاومة تحت عنوان، أين أخطأنا في التعامل مع المسار التراكميّ نحو الانهيار في الأزمة الاقتصادية المالية، ويطغى في بحث التقييم الخضوع الضمني لخطاب دائم الانتقاد للمقاومة، خصوصاً لحزب الله لعدم إعلانه خوض المواجهة المفتوحة مع سياسات الدين والفوائد، واتهامه بتغطية الفساد او الصمت عنه، تحت شعار أولوية الاستقرار، كحاجة لحماية مسار المقاومة، ومنع الفتن، وهو ما يحاول خصوم المقاومة تلخيصه بمعادلة خبيثة عنوانها، مقايضة الصمت على السلاح بالصمت عن الفساد، وهذا العنوان موضوع حملة قديمة متجدّدة استمرت وتعاظمت لتصير تحت عنوان تحميل سلاح المقاومة مسؤولية الفساد، كما تجلت في الدعوة لتظاهرة 6-6، وربط الخروج من الأزمة المالية بتلبية الشروط الأميركية بنزع السلاح، وإن لم يكن نزع السلاح قد حظي بقبول شعبي يكفي لجعله حاضراً، فهذا لا ينفي أن كثيراً من الصالونات تتحدث عن تنازلات لا بد منها للحصول على الدعم الدولي اللازم، وعينها هي على ما يمكن طلبه من حزب الله. وعلى ضفة موازية تستمر حملة مطالبة حزب الله بالمزيد من الانخراط في حملة ثورية على الفساد تنتهي بتدحرج الرؤوس الكبيرة، ليوضع حزب الله بين مطرقة هؤلاء وسندان أولئك، بالرغم من الشرح الذي قدّمه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لخلفيات موقف حزب الله الهادئ في مواجهة الفساد والمبني على التمسك باعتماد طريق أحادي هو القضاء وتمكين القضاء، وتأكيد أن القلق من خطر الانزلاق نحو الفتنة لا يتصل بالحرص على سلاح المقاومة، بمقدار اتصاله بالحرص على البلد القائم على معادلات طائفيّة متفجرة، أكدت صدقيته أحداث اليومين الماضيين، وخطورة تخيّل القدرة السحرية على مواجهة الفساد بمجرد وجود النية والرغبة والإرادة، إذا تم تجاهل الآليات الصحيحة والتي تأخذ الخصوصية اللبنانية بعين الاعتبار.

ثمة نقطتان تحتاجان لفحص وتدقيق في مسار التعامل مع الأزمة الاقتصادية والمالية وتحركها بين ضفتي، الفساد الجنائي وحجمه قياساً بالنظام القائم على معادلات فاسدة مشرعنة وشعبية، من جهة، وثنائية العقوبات وسلاح المقاومة وموقعها الإقليميّ من جهة مقابلة، ففي النقطة الأولى ثمّة قناعة شعبية رائجة قائمة على وهم كاذب، لا يجرؤ السياسيون على قول الحقيقة المرة بصددها، والحقيقة هي أن الفساد الذي يمكن للملاحقة القضائية الجنائية أن تطاله لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من حجم المال الضائع على لبنان، قياساً بالمال الذي تمّ إهداره من خلال سياسات التوظيف والتلزيم وتسيب الخدمات العامة وتمويلها بالديون المرتفعة الفوائد. ومثال الكهرباء يكفي لمعرفة أن الحقيقة لا تكمن في خطاب المزايدات الذي يتحدث عن عشرات مليارات الدولار كمال منهوب، فالعمولات والسمسرات الموجودة حكماً في صفقات الكهرباء لا تكاد تشكل نسبة بسيطة من هذا المبلغ، بينما جوهر الأزمة يكمن بثنائية التهرّب من التخلي عن تسعير منخفض للكهرباء وملاحقة الجباية المحدودة، مع تلكؤ في تأمين كهرباء مستدامة 24/24، وتمويل الانتظار من ديون بفوائد مرتفعة، لتأمين الفيول المتحرك بأسعاره على إيقاع سعر النفط، والسبب هو تعميم عائدات هذا الهدر على الشعب كله، كما في التوظيف الفوضوي والانتخابي، كما وهذا هو الأهم والأعظم والأكبر والأخطر، في سلسلة الرتب والرواتب بالتوازي مع تثبيت سعر صرف الدولار، وتمويل كليهما من دين مرتفع الفائدة، بحيث إن المفاجأة غير السارة التي تنتظر اللبنانيين عندما يشتغل القضاء بكامل طاقته، وبلا حصانات، هي أن الرقم الفعلي الموثق لا يشكل إلا نسبة ضئيلة مما ينتظره اللبنانيون لأرقام المال المنهوب، فالفساد الأصلي هو فساد نظام قائم على إعادة إنتاج الزعامات السياسية من بوابة خدمات وعائدات ومستوى عيش، بصورة لا تتناسب مع مقدرات الدولة، وعبر عملية لحس مبرد اسمها الإستدانة بفائدة مرتفعة لتثبيت سعر الصرف، أي تثبيت القدرة الشرائية للبنانيين، بل وزيادتها عبر سلسلة الرتب والرواتب التي تسببت وحدها بزيادة الاستيراد بأربعة مليارات دولار منذ عام 2017.

النقطة الثانية التي تحتاج إلى التدقيق أكثر، هي مدى صوابية تساهل المقاومة في تعامل الدولة ومصرف لبنان والمصارف مع العقوبات الأميركية بإيجابية، على قاعدة التضحية لأجل لبنان، ليبدو اليوم بوضوح أنها كانت تضحية من حساب السيادة اللبنانية تحوّلت إلى ثقافة، صارت تستجلب مطالبات كالتي خرجت تدعو لسحب السلاح تفادياَ للمزيد من العقوبات، وكطريق للحصول على مساهمات مالية تخرج لبنان من الأزمة، والمنطقي كان يومها أن تصر المقاومة وكل الأحزاب الصادقة في تمسكها بالمفهوم السيادي على رفض التسليم بنظام العقوبات، والإصرار على أن تمارس الدولة سيادتها، باشتراط السير بأي ملف يطال شخصاً أو مؤسسة، بالحصول على مندرجات قانونية تبرر تصنيفه كملف مخالف للقوانين، وفقاً لمعايير الجرائم المالية، وهل ننسى كيف أقفل بنك الجمال وتمت تصفيته بصمت لبناني عام، من دون أن يحصل مصرف لبنان حتى اليوم على ملف قانوني مفصل، يبرر قرار إعدام كالذي صدر بحقه من دون محاكمة، وهو مجرد مثال لعشرات ومئات الحالات التي تراكمت لصناعة الانكماش المالي، وصولاً لخسارة لبنان أغلب التحويلات الآتية من الاغتراب، والتي كانت عاملاً حاسماً في الأزمة التي تفجر تحت ضغطها ميزان المدفوعات وما يعرفه اللبنانيون من شح في الدولار، ولنتخيل أن الإصرار على رفض التسليم بالعقوبات قد أدّى إلى أزمة داخلية يومها، فهي ستكون في ظروف وشروط أفضل مما نواجهه في أزمة اليوم.

يكفي الخروج من صنميّة المشهد اللبناني، لنعرف أن الأمر أوسع وأبعد مدى من خصوصية، فالمشهد من إيران إلى سورية والعراق ولبنان وفنزويلا يقدم لنا أزمات متشابهة، لكن ممنوع على المشاهدين والمعنيين الواقعين تحت تأثيرها، أن يفكروا فيها بطريقة البحث عن المشترك، وهو نظام العقوبات والحصار الذي تقوده واشنطن بهدف الإخضاع، بل يجب الذهاب بدلاً من التفكير الموحد، التفكير بطريقة موحدة، أو متشابهة للأزمات المتشابهة، بترداد عنوان واحد هو الفساد والعجز الحكومي والسياسات المالية الخاطئة، وهي مشتركات بين كل دول العالم، لكن هنا يجب منحها الخصوصية لأنها يجب ان تكون هي التفسير، وإلا فكيف يحقق نظام العقوبات أهدافه، والفرق هو ببساطة بين طريقتين في التفكير، طريقة تقول، صحيح هناك فساد وفشل وسياسات خاطئة لكن القضية تكمن في نظام العقوبات والحصار، وطريقة أخرى تقول، صحيح هناك عقوبات وحصار لكن القضية هي في الفساد والفشل والسياسات الخاطئة، ومتى انحزنا إلى الطريقة الثانية يبدأ السقوط وصولاً للانهيار، لماذا؟

لأن التشخيص الخاطئ سينتج معالجة خاطئة، فالتركيز على مواجهة الفساد والعجز والفشل والسياسات الخاطئة، سينتج الانقسام الداخلي حكماً، والانقسام سيصير توترات و»الفقار بيولد النقار»، وفي البلاد التي تتشكّل من مكوّنات متعددة الأصول الإتنية أو العراقية أو الدينية يسهل أن تتحول التوترات إلى مشاريع حروب أهلية، وحيث الحكومة سيادية وطنية كحال إيران وسورية، تتحول دعوات مواجهة الفساد والفشل إلى إضعاف للحكومات وتأليب للرأي العام عليها، أي جعله من حيث لا يدري في خندق واحد مع أصحاب العقوبات، وثانياً لأن المعالجة للفساد إذا لم تكن بعمليات جراحية واتهامات استئصالية فلن تعطي مفعولاً سريعاً ولن تلقى الاحتفالية الشعبية بثوريتها، فيسهل نمو الميل لتكون كذلك، وإن كانت كذلك ستتحوّل إلى عمليات إستنسابية وفوضوية ومافيوية تنهي كل أرضية قانونية للاستقرار ومفهوم الدولة، وتفتح المجتمع على التشظي، ومنطق العصابات، وعقلية الميليشيا التي تصير ميليشيات وتخلف الدولة بدويلات، وثالثاً لأن استبدال السياسات الخاطئة بسياسات مجدية يرتكز على تشجيع الإنتاج والتصدير، فيصطدم مجدداً بالعقوبات، بعد أن قام السعي كله على نظرية الهروب من الاعتراف بأنها المشكلة الأصلية، والهروب إلى الأمام سيقتضي الالتفاف على العقوبات بمنطق مسايرتها وتحقيق أهدافها، من دون الاعتراف بأنها المشكلة، والطريق سهل، تلبية ما يريده صاحب العقوبات لفتح الطريق نحو الخروج من المأزق الانهياري بالقطارة، تنازل سيادي مقابل فتحة تسرب ضيقة للأوكسجين، حتى يتحقق الإخضاع الكامل، والانهيار الكامل، فماذا لو جربنا الوصفة الأولى؟

الانطلاق من توصيف العقوبات كأساس للمشكلة، سيعني مباشرة تأكيد التمسك بالمصادر السيادية للقوة التي تستهدفها العقوبات، وتحقيق أوسع إجماع ممكن حولها، والانتقال للاستثمار على مصادر القوة الاقتصادية التي توفر إنتاج الثروة من خارج منظومة العقوبات، وهذا معناه التركيز على أعلى درجات الاكتفاء الذاتي الممكنة، وإغلاق الأسواق أمام المستوردات التي يمكن إنتاجها، وحصر المتاجرة بما أمكن بالتبادلات العينية مع مَن يمكن، وهم بطبيعة الحال المعاقبون مثلنا، الشركاء في المحنة ذاتها، والمدافعون عن قيم الاستقلال والعزة ذاتها، بمعابر شرعية برية وبحرية، أو بابتكار معابر لا شرعية بحرية وبرية أيضاً، لا بإقفالها، بل بتقنين استعمالها لخير الشريكين، هذا في الاتجاه الرئيسي هو عملياً معالجة للسياسات الخاطئة دون ضجيج، لأنه سير بعكسها، وفتح للباب لتجفيف اقتصاد الفساد، لأنه ذهاب للاقتصاد المنتج حيث تضعف السمسرات والصفقات، وحيث أغلب المتاجرة ستكون من دولة لدولة، بمسك دفاتر التبادل بالعملات الوطنية، وبهدوء ومن دون ضجيج، سيقع الفاسدون من مكانتهم الممسكة بتلابيب الاقتصاد إلى الهامش، فيصير فتح دفاتر ماضيهم ممكناً، من دون صخب؛ أما القضاء الذي من دونه لا مساءلة ولا محاسبة ولا مكافحة جدية ومستديمة للفساد فلا يكون إنهاض استقلاله وتعزيز فعاليته إلا بصمت.

الوطنيون الحقيقيون، والثوار الحقيقيون، هم الذين يسألون، ما معنى أن المال لن يأتينا إلا إذا تخلينا عن ثوابتنا السيادية، سواء كانت موقفاً أم سلاحاً؟ ويجيبون، أليس هذا ما رفضناه يوم كان الثمن المعروض علينا أعلى، ولأجله دارت كل هذه الحروب وقدّمت كل هذه التضحيات؟ وما معنى أن ننتصر على الأزمة بأن ننهزم أمام من سببها؟ وهل فعلاً سننتصر، أم سننهزم بالتدريج، فهل من قيمة لسورية من دون دولتها المستقلة ليقيموا حساباً لجوع أهلها إذا سقطت الدولة وثوابتها واستقلالها؟ وهل من قيمة للعراق من دون حشده الشعبي كي لا يصادروا نفطه إذا انتهى الحشد وسلاحه وخياره المقاوم؟ وهل من قيمة للبنان من دون مقاومته وسلاحها، كي يبحثوا في كيفية إطعام شعبه، إذا ضمرت وضعفت؟

تصديق كذبة التفسيرات الساذجة وصفة سريعة للانهيار الكامل، والمغفلون هم الذين يسيرون بأعين مفتوحة وأقدام ثابتة إلى الوادي السحيق، تحت شعار الصعود إلى القمة، فهذا هو التقدم إلى الوراء، بكل ما تعنيه الكلمة، لنخرج مع نهاية النفق إلى المقصلة، حيث بصيص الضوء يأتي فقط مخادعاً من بين حدّي شفرتيها لا أكثر ولا أقل، وعندها لا مفر، ولا جدوى من الصراخ، الطريق إلزامي إلى المزيد من الاقتراب نحو المقصلة، ولا تراجع، فالتراجع ممنوع ومستحيل، وسنكون كما يقول المثل، «كالفواخرة بلا دنيا ولا آخرة»، فصانع الفخار الذي يتلاعب بمكان أذن الجرة ليتلاعب بسعرها، لن يجد مَن يشتري منه، لكنه لن يجد مَن يسير بجنازته أيضاً.

سيبدأ لبنان باكتشاف وصفته للخلاص، يوم يجرؤ على التفاوض مع إيران على شراء المشتقات النفطية على الطريقة الفنزويليّة، فيخفض فاتورته بالعملات الصعبة، ويوم يجرؤ على التفاوض مع سورية على سلة تبادل عينيّ زراعية وصناعيّة، وفتح طريق العراق لاستجرار النفط الخام وتأمين الأسواق لصادراته وتفعيل تجارة الترانزيت لحساب السوق العراقية برسوم مخفضة، ولتكامل اقتصادي مشرقي لبناني سوري عراقي. وطالما السعي هو لاسترضاء مَن يقف وراء صندوق النقد الدولي، فنحن ذاهبون لمناقشة حجم ونوع ومجال التنازلات السيادية التي يطلبها صاحب العقوبات، في ترسيم حدود النفط والغاز أم في سلاح المقاومة أم في العلاقة مع سورية، أم في جميعها. والحصيلة لن تكون بالمقابل سوى جرعة مهدئات وليست علاجاً للأزمة، لكنها استرهان بالإدمان على جرعات المخدر المنتظمة كلما حان أوانها.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى