الوطن

هل ينجح ترامب في توريط الجيش الأميركي في ‏السياسة؟*‏

بعد رفض وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنشر الجيش للسيطرة على الاحتجاجات، عاد الجدل مجدّداً حول العلاقة بين وزارة الدفاع وترامب، وتزامن مع هذا الرفض حملة انتقادات واسعة من كبار جنرالات الجيش الأميركي السابق، وصلت إلى حدّ اتهامهم لترامب بخيانة القسم الدستوري.

يطرح ذلك تساؤلات مفتوحة حول تبعات هذه المواقف على العلاقة بين الجيش والرئيس، التي كانت مستقرة نسبياً على مدار العقود الماضية، بفضل التوافق على أن الجيش مؤسسة غير مسيّسة، وأنّ وظيفته الأساسية متمثلة في حماية الولايات المتحدة من المخاطر الخارجية والحفاظ على الدستور.

تشرح السطور التالية تاريخ العلاقة بين الجيش الأميركي والرئيس ترامب، ومحاولاته المستمرة لاستغلال الجيش سياسياً، ومظاهر هذا التوتر القائم بينهما، وأثره مستقبلياً في الأول، وأوراق القوة التي يحوزها كُل طرف.

غضب بين العسكريين بعد تهديدات ترامب

وسط انتشار المظاهرات، التي رافقتها بعض أعمال الشغب، في عدة ولايات أميركية احتجاجاً على مقتل مواطن أسود على أيدي الشرطة، رفع ترامب شعار المواجهة العسكرية سبيلاً لإنهاء هذه الاحتجاجات، ملوّحاً بنشر قوات الجيش النظامية لإنهاء هذه الاحتجاجات.

طلب ترامب نشر 10 آلاف جندي من قوات الجيش في منطقة العاصمة واشنطن لوقف الاضطرابات المدنية؛ من خلال استخدام «قانون التمرد»، الذي صدر لأول مرة في القرن التاسع عشر، والذي يمنحه الحق في نشر قوات الجيش دون موافقة حكام الولايات في ظل ظروف معينة.

عقب تهديد ترامب، ذهب وزير الدفاع مارك إسبر، والجنرال مارك ميلاي، رئيس هيئة الأركان المشتركة في جولة تفقدية حول البيت الأبيض، انتهت بالتقاط صورة للثلاثة معاً أمام كنيسة قرب البيت الأبيض، بعد أن أخلت الشرطة المنطقة بإطلاق الغاز السيل للدموع وكرات الفلفل، وهاجمت المحتجّين المسالمين، لتثير هذه الصورة انتقادات واسعة.

ومما أثار انتقادات أكبر، كان ظهور رئيس الأركان مرتدياً ملابس الجيش في هذه الزيارة، في مشهد انتهك تقليداً قديماً وراسخاً يلتزم به هيئة كبار الضباط المدنية في زيارتهم البيت الأبيض.

عكست صورة قادة البنتاغون مع ترامب عقب تلويح الأخير باستدعاء قوات الجيش النظامية توافقاً ضمنياً على مطلب الرئيس الأميركي، ودعماً من الجيش لنهج ترامب في تعامله مع الاحتجاجات؛ وهو ما أثار احتجاجاً لأصوات داخل الجيش رأت في تلويحه بالأمر مغامرة قد تهدد أركان الديمقراطية الأميركية برمتها.

من أحد المظاهر المهمة لاحتجاج العسكريين على سياسة ترامب، مقال نشرته «واشنطن بوست»، وقَّع عليه 89 مسؤولاً عسكرياً سابقاً، تحدثوا فيه عن مخاوفهم من تهديدات ترامب بأمر القوات بقمع الاحتجاجات، متهمين ترامب بخيانة القسم الدستوري، لتهديده باستخدام الجيش الأميركي في قمع حقوق الأميركيين.

واتضح الخلاف بين ترامب والجيش أكثر، حين خرج وزير الدفاع ليعلن أمام الصحافيين في مبنى البنتاغون معارضته نشر قوات الجيش لتطبيق القانون محلياً، إلا إذا كانت «الملجأ الأخير»، وفي «حالات الضرورة القصوى والأوقات العصيبة». وأصدر إسبر مذكرة لإعادة تعريف أفراد وزارة الدفاع بمهامهم، قال فيها: «إننا ملتزمون بحماية حق الشعب الأميركي في حرية التعبير وحرية التجمع السلمي».

الأمر ذاته فعله رئيس الأركان، الجنرال مارك ميلاي، حين أصدر بياناً مماثلاً ذكَّر فيه الجنود باليمين الذي أقسموا به لحماية الدستور، الذي يحمي الحق في الاحتجاجات السلمية.

بعد ساعات، شن جيمس ماتيس، وزير الدفاع السابق، هجوماً على ترامب، وكتب: «لم أتخيّل يوماً أنّ الجنود الذين يؤدون اليمين نفسه (بالدفاع عن الدستور)، يمكن أن يتلقوا الأمر، مهما كانت الظروف، لانتهاك الحقوق الدستورية لمواطنيهم»، في إشارة إلى حق التظاهر.

ترامب ومحاولاته المتكرّرةلاستخدام الجيش في الدعاية السياسية

غير أنّ لهذا التوتر، الذي يخيم على العلاقة بين الجانبين، خلفيات أخرى سبقت هذه الواقعة، التي يبدو أنها فقط نقلت مواجهة ترامب خارج الغرف المغلقة، بعدما حاول الأخير، في السنوات الأخيرة، الترويج في دعايته السياسية لتحالفه مع عناصر الجيش، بصفته مؤشراً على صلابته، وأجرى بعض التغييرات داخل بنية المؤسسة بهدف تصعيد أشخاص يميلون لسياسته.

كانت الخطوة الأبرز لترامب في محاولة فرض سطوته على الجيش في اختيار الجنرال مارك ميلاي (61 عاماً)، مارس (آذار) العام الماضي، في منصب رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي، ومستشاراً عسكرياً؛ ليكون رجله في إخضاع الجيش لتوجهاته، ودعايته السياسية.

بنى ترامب اختياره على خلفية الجنرال ميلاي وسيرته في الأوساط العسكرية ومع من خدموا معه؛ فهو «رجل طموح للغاية، لا يقاوم الأفكار المعيبة من رئيس، أو يأخد مواقف معارضة»، فضلاً عن كونه رجلاً «بلا خط أخلاقي»، وفقاً لمسؤولين سابقين خدموا معه.

دعم صعود ميلاي أيضاً وزير الخارجية مايك بومبيو؛ وديفيد أوربان، رجل أعمال وجمهوري مُقرب من ترامب، اللذان ضغطا لترقيته لهذا المنصب النافذ.

لهذا السبب، رأى جنرالات سابقون في الجيش الأميركي أنّ بيان رئيس الأركان، المؤيد لعدم نشر القوات، لا يعكس موقفاً حاسماً له تجاه فصل مؤسسته عن السياسة، بقدر ما يأتي تأثراً بالانتقادات والأصوات العالية التي كادت أن تصل إلى تمرّد داخلي. احتجاجاً على انخراط الجيش في أعمال ترامب الدعائية.

قبل تعيين ميلي، حاول ترامب، بين عامي 2017 و2018، توظيف الجيش في عروض عسكرية من أجل دعاية سياسية له، أو في مطالب أخرى تتعلق بخفض عدد القوات خارج بلاده، بعيداً عن المتغيّرات السياسية، وهي القضايا التي تحايل عليها وزير الدفاع آنذاك جيمس ماتيس، ورئيس أركانه جون كيلي بالرفض، وعدم الامتثال لمطالبه، ملتزمين في الوقت ذاته بعدم الدخول في صدامات عنيفة مع البيت الأبيض.

تكرّرت محاولات ترامب العام الماضي للدفع بالجيش نحو حلبة السياسة بطرق غير مباشرة، في عدد من مناطق سياسات صناعة القرار، متجاهلاً المحدّدات التي تحكم القرار داخل الجيش الأميركي، والتي لا تتضمّن الدعاية السياسية.

حدث ذلك حين أصدر ترامب قراراً بسحب القوات الأميركية من سورية، على سبيل الدعاية السياسية لخطته بخفض الحروب التي تخوضها بلاده خارجياً، وهو ما كان يخالف وجهة النظر العسكرية التي يمثلها ماتيس، الذي حذر من أنّ الانسحاب المبكر من سورية سيكون «خطأ استراتيجياً فادحاً».

كما خالف التقاليد المُستقر عليها، حين وقَّع، في رحلته الأولى إلى البنتاغون، على مشروع قانون مثير للجدل يقيّد الهجرة في قاعة الأبطال (التي يكرّم فيها من يحصل على أعلى وسام عسكري في البلاد) مع وزير الدفاع ماتيس، فيما رآه المحللون محاولة لإظهار دعم الجيش للقانون وسياساته.

كذلك، كان تمويل بناء الجدار الحدودي مع المكسيك من الميزانية العسكرية بقيمة قدرت بنحو 2.5 مليار دولار، بعدما حظر الكونغرس تمويل مشروع جداره الحدودي، فضلاً عن استخدام ترامب للغة مخصصة عادة للتجمعات السياسية الحزبية في تجمعاته مع المقاتلين الأميركيين.

أمام تدخلات ترامب التي عجز ماتيس عن تجاهلها، فغادر منصبه في يناير (كانون الثاني) لعام 2019، وتبعه رئيس الأركان كيلي وعدد من كبار جنرالات الجيش الأميركي، وبعدها اختار ترامب الجنرال إسبر لمنصب وزير الدفاع، ومعه رئيس الأركان الجديد.

في حديثهم مع مجلة «نيويوركر»، أبدى عسكريون قلقهم من احتمالية توظيف ترامب للجيش في الدعاية السياسية في الانتخابات الرئاسية المُقرر لها الانعقاد في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ويتساءل أحد الضباط الكبار: «ماذا لو رفع القيود المفروضة على ارتداء الزيّ العسكري في التجمعات الانتخابية»، أو توصية الجيش بعمل عسكري كبير في الخارج يحقق من ورائه مكاسب سياسية.

وبحسب ضابط كبير سابق، هناك: «تصوّر الآن بأنّ الجيش أصبح مسيَّساً». والقلق الأكبر للمؤسسة العسكرية في احتمالية استخدام ترامب الجيش في دعايته السياسية في الداخل والخارج في الانتخابات المُقبلة.

قلق الأوساط العسكرية الأميركية يذهب لما هو أبعد من مجرد توجيه أو توظيف سياسي، إلى احتمالية استدعاء ترامب لأفراد من الحرس الوطني في بعض الولايات؛ حال خسارته الانتخابات أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن، في وسيلة احتجاجية للحيلولة دون خروجه من البيت الأبيض.

غير أن عسكريين سابقين يؤكدون أن الجيش لن يحاول أبداً التأثير في الانتخابات أو قلبها، حتى الانتخابات التي تكون النتيجة فيها غير مؤكدة، مؤكدين أنه: «إذا كانت هناك انتخابات متنازع عليها، فستقرّرها المحكمة العليا».

ما يجهله ترامب

تمسك الجيش الأميركي بسلسلة قواعد وتقاليد منذ عقود طويلة حالت دون توظيفه سياسياً ممن يسكن البيت الأبيض، ومنعت هذه التقاليد رئيس أميركا من استخدامه في أيّ أعمال دعائية أو ترويجية لصالحه.

شملت هذه التقاليد منع العسكريين من الظهور بالزيّ الرسمي في المناسبات السياسية، أو حضورهم تجمّعات انتخابية، وتجنّب إقحام القوات المُسلحة الأميركية لها في ما هو خارج اختصاصها ووسائلها.

وتتبع وزارة الدفاع قواعد صارمة بشأن مشاركة أفراد الجيش الأميركي في السياسة، وتمنع أي مظهر من أشكال التحيّز في الجيش، الذي يجب على أفراده اتباع توجيهات قائده المدني العام والكونغرس، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الشخصية.

وبحسب تعريف وزارة الدفاع الأميركية «للنشاط السياسي الحزبي» فهو: «النشاط الداعم أو المرتبط بالمرشحين الذين يمثلون الأحزاب السياسية الوطنية، أو الحكومية والمنظمات المرتبطة أو المساعدة، أو تلك القضايا الخاصة بها».

انعكست هذه التقاليد الحازمة على ثقة الرأي العام بالمؤسسة العسكرية الأميركية، والتي لا تضاهيها أي مؤسسة أخرى على الإطلاق، اجتماعية كانت أو حكومية.

إحدى نتائج هذه الاستراتيجية هي تفضيل الناخبين الأميركيين، والشعور براحة وطمأنينة عند انتخابهم مسؤولين وقادة يمتلكون خبرة عسكرية، بسبب التزامهم بالخدمة العامة ومتطلباتها، وعدم الانخراط في القضايا الحزبية، واعتقاد المواطن الأميركى بأنّ هؤلاء الجنود السابقين لديهم القدرة والخبرة التي تؤهّلهم لتولي مثل هذه المناصب.

عامل آخر حسم قضية تجنب إقحام الجيش في السياسة، وهو أنّ البنتاغون يرى أنّ توظيف المؤسسة العسكرية في قضايا البيت الأبيض يفتح الباب أمام تصدّع في هياكل الأمن القومي الأميركية، سواء العسكرية أو المدنية، وهو ما يزيد من احتمالية التجسّس عليها وعلى كافة أفرادها، خصوصاً من مئات الجواسيس الروس والصينيين العاملين في الولايات المتحدة.

ونقل موقع «بيزنس إنسايدر» عن مسؤول استخباراتي في إحدى دول الناتو، أن «مثل هذه الحالات تبرز أفضل وأسوأ المسؤولين، الذين هم مثل أي شخص آخر، منهم الضعيف، أو غير الأخلاقي؛ وهؤلاء هم الفئات القابلة لتجنيدها داخل الولايات المتحدة».

ويتفق مسؤولون في أربع دول على أن التوترات بين إدارة ترامب والجيش تشكل فرصة كبيرة لأجهزة المخابرات المعادية مثل الصين وروسيا، بالإضافة إلى الدول «الصديقة والعدوة في الوقت نفسه» مثل إسرائيل وتركيا، لجمع معلومات استخبارية ومصادر جديدة.

*ساسة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى