مقالات وآراء

الضغوط القصوى… قانون قيصر والثأر الأميركي من ‏سورية

} أمجد إسماعيل الأغا*

وسط كلّ الوقائع والمعطيات التي تحمل وتؤشر إلى تناقضات حول النتائج المرتقبة لقانون قيصر، يبدو واضحاً أنّ الترجمة الجيوسياسية لمفاعيل هذا القانون، هي أنّ أميركا تمارس الضغوط القصوى على سورية، مستغلة بذلك البيئة الإقليمية التي تعاني من نزاعات سياسية، وضغوط اقتصادية ساهم فايروس كورونا في تعميقها، ليبدو للوهلة الأولى أنه لا يمكن التسليم بعدم تأثير قيصر على المشهد السوري بمجمله، خاصة أنّ جلّ التوجهات الأميركية في المنطقة، تبحث عن بوابة قوامها إضعاف الدولة السورية، وإقصاء تأثيرها السياسي والعسكري من المشهد الشرق أوسطي، لـ ضمان أمن الكيان «الإسرائيلي». يأتي ذلك بالتزامن مع جهدٍ حثيث تمارسه واشنطن وتل أبيب ضدّ روسيا، لدفعها تجاه العمل لإخراج إيران من المسرح السوري، في معادلة تمّ استنباط جزئيتها من مفردات وعناوين قانون قيصر.

بات جلياً أنّ أهداف واشنطن منذ بداية الحرب على سورية، ارتكزت ضمن مقومات قطع خطوط التواصل بين سورية ومحيطها المقاوم من جهة، ومن جهة ثانية تدمير الجسور الجغرافية بين دمشق وطهران، عبر عناوين اقتصادية تتمثل بعقوبات تضغط لإرهاق سورية وحلفائها، الأمر الذي يعطي واشنطن فرصة تأثير يمكن أن يتصاعد إذا شدّدت الأخيرة من سياساتها وعقوباتها لتغيير المشهد السوري. كلّ هذا يبدو أنّ قيصر قد يساهم إلى حدّ ما في هندسة معالم ذاك المشهد.

قانون قيصر وتوقيت تفعيل بنوده

من الواضح أنّ قانون قيصر جاء في توقيت دقيق تمرّ به سورية؛ هو توقيت مرتبط بجملة من المعطيات، أوّلها هدوء ميداني فرض سورياً نتيجة المنجزات التي تمّ تحقيقها عسكرياً، ولتدخل تلك المنجزات في سراديب السياسة ومتاهاتها، بغية تحجيم تأثيراتها في سياق الحلّ السياسي في سورية، وعطفاً على ذلك، فإنّ تطبيق هذا القانون جاء متزامناً مع بدء الانتعاش الزراعي في سورية، كنتيجة طبيعية لـ انحسار رقعة المعارك، وتمكّن الدولة السورية من فرض سيطرتها على غالبية الجغرافية السورية، فضلاً عن عودة حلب وما تمثله من ثقل اقتصادي استراتيجي في ميزان الحسابات السورية، والتي ستحقق عوائد كبيرة يمكن البناء عليها لتكون منطلقاً لجملة واسعة من الاستثمارات الإقليمية والدولية.

لا شك بأنّ تداعيات الحرب على سورية، قد أرخت بظلالها على المشهد السوري، فالآثار التراكمية للحرب، وحالة الركود الاقتصادي المرافق لتردّي الأوضاع المعيشية لدى غالبية السوريين، وتدهور قيمة الليرة السورية، كلّ ذلك يشكل بيئية مناسبة لقانون قيصر، بغية تعميق جراح المجتمع السوري، والوصول في خواتيم ذلك إلى مرحلة التشظي بين السوريين وحكومتهم؛ هذا الأمر الذي تحاول واشنطن هندسته لتعقيد المشهد السوري بجزئياته كافة.

«قيصر» وحلفاء الدولة السورية

في جزئيات وتفاصيل بنود قانون قيصر، هناك معطيات تؤكد بأنّ روسيا وإيران مستهدفتين ضمناً في إطار هذا القانون، إذ يركز قانون قيصر بشكل مباشر على الدول والأشخاص الذين يتعاملون مع الدولة السورية، هذ الأمر تحاول واشنطن استثماره وفق معادلة التأثير السلبي على حلفاء دمشق الرئيسيين وخاصة روسيا وإيران، والواضح من خلال ذلك، أنّ الإدارة الأميركية تأخذ خطوة استباقية للحدّ من إمكانية تفعيل نظرية ما ينجز في الميدان يترجم في السياسة، وكذا في الاقتصاد، خاصة أن دمشق أصرّت على منح ورقتي إعادة الإعمار والاستثمار الاقتصادي في سورية ما بعد الحرب، لحلفائها فقط، الأمر الذي ترجم استثماراً روسياً لـ مرفأ طرطوس، فضلاً عن الامتيازات في قطاع الثروات الطبيعية، ومثلها إيران التي استفادت أيضاً في عقود لاستكشاف البترول في منطقة البوكمال شمال شرق سورية.

من هنا يبدو واضحاً أن واشنطن تسعى جاهدةً للضغط على موسكو وطهران، والعمل في اتجاه مضاد لسياساتهم في سورية، من أجل جذبهم إلى بوتقة الخيارات الأميركية.

في ذات الإطار، فإنّ روسيا اتخذت جملة من الإجراءات الاستباقية ضد قانون قيصر؛ خطوات ظهر منها تسليم سورية طائرات MIG-29 المحدثة، والدخول في مفاوضات تسمح لموسكو بالتوسع في مياه المتوسط، إضافة إلى تعيين السفير الروسي في دمشق سيرغي يفيموف مبعوثاً رئاسياً خاصاً إلى سورية.

ضمن المشهد السابق، ما يفهم أن واشنطن تحاول عبر أدوات «قيصر»، أن تستحوذ على ورقة ضغط تفاوضية سياسية واقتصادية جديدة في سورية، لا سيما أن نظام العقوبات الأميركية والأوروبية موجود سابقاً، ولا تأثيرات حقيقية لهذه العقوبات على دمشق أو موسكو أو طهران، لكن مع قانون قيصر هناك جزئيات من الممكن أن تزيد الضغوط على دمشق وحلفائها، الأمر الذي تراهن عليه واشنطن لزيادة تعقيد المشهد، لكن في المقابل هناك خطوات اعتمدتها الدولة السورية وحلفاؤها، لفتح باب التعاون خارج دوائر هذا القانون، سواء عبر وسطاء، أو عن طريق إنشاء شركات خاصة تتولى متابعة النشاطات التجارية والاستثمارية في ظل العقوبات دون أن تتأثر شركات أخرى بها، خصوصاً أن روسيا وإيران خبرتا العقوبات الأميركية على مدار عقود طويلة، وخبرتا أيضاً سبل الالتفاف على هذه العقوبات، وإن كانت أخف وطأة من قانون قيصر.

وجهتا نظر لـتداعيات قانون قيصر وانعكاساته

حقيقة الأمر، الإدارة الأميركية تراهن على تطبيق نظرية الضغوط القصوى، لإحداث تحوّلات سياسية في الملف السوري، وهو ما أشار إليه صراحةً السفير الأميركي المتابع للملف السوري جيمس جيفري بتأكيد أن العقوبات ستدفع النظام للذهاب إلى حلّ سياسي في سورية، يستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2254. انطلاقاً من الوقائع القائمة حالياً عبر دعم وقف إطلاق النار في إدلب، ودفع اللجنة الدستورية للمضي في عملها، وتمهيد الطريق لانتخابات جديدة بإشراف الأمم المتحدة. والتي يتطلع الأميركيون، أن لا يكون بشار الأسد بنتيجتها في الرئاسة السورية.

في هذا الإطار، فإن هناك انقساماً في تقدير النتيجة العملية لما تمثله تطبيقات قانون قيصر، لجهة تطور السياسة الأميركية حيال القضية السورية، وعليه فإن هناك وجهتي نظر يمكن اختصارهما بالآتي:

الأولى: قسم من السوريين ومتابعي الشأن السوري، يعتقدون بأنّ تطبيقات قانون قيصر ستكون بوابة أميركية لإعادة ترتيب العلاقات مع حلفاء دمشق، لكن وفق الرؤية الأميركية، لجهة استحداث معادلة تقصي الحق الروسي والصيني من استخدام حق النقض، في أي مناسبة أممية تستهدف سورية، أو في أي مناسبة عسكرية أميركية ضد دمشق، ودون ذلك سيتمّ فرض المزيد من العقوبات على موسكو وبكين؛ هذه الرافعة الأميركية وبحسب اعتقاد الكثيرين، ستدفع حلفاء دمشق نحو التفاهم مع الأميركيين في القضية السورية وما حولها، وبالتالي إحداث تحولات جوهرية في المشهد السوري، تكون ناظمة لصورة يحاول الأميركي هندسته ورؤيتها واقعاً.

الثانية: قسم من السوريين ومتابعي الشأن السوري، يعتقدون بأنّ قانون قيصر لن يكون له أيّ تداعيات ولن يحقق غايته، فهو كغيره من العقوبات الأميركية ضد دمشق، ويعدّ سلسلة من جملة القوانين الأميركية التي فرضت بحق دول وأفراد كثيرين في العالم؛ لكن الجزئية التي تضمّنتها بنود القانون، قد تشكل عامل ضغط على حلفاء الدولة السورية لا سيما إيران، لكن في المقابل، فإنّ دمشق وطهران خاضعتان للعقوبات الأميركية منذ عقود، حتى أن سياسة البلدين بُنيت وأسّست على نظام العقوبات الأميركية.

بمعنى آخر، أنّ الدول التي تتعرّض لعقوبات مثل روسيا وإيران وسورية بنت سياستها وعلاقاتها على أساس تلك العقوبات، وعملت على سياسات البدائل سواء في علاقاتها الدولية أو في سياساتها الداخلية، الأمر الذي فتح بوابات تطور في مجالات معينة، كما حدث في المشروعين النووي والصاروخي الإيرانيين اللذين تأسّسا وتطوّرا في ظلّ العقوبات، كما خاضت في ظلّ العقوبات حرب الثماني سنوات ضد العراق، وخاضت الدولة السورية وإلى جانبها إيران وروسيا الحرب على الإرهاب في السنوات التسع الماضية، ما يجعل هذا الفريق من متابعي القضية السورية، يؤكدون أن احتمالات تأثير قانون قيصر في الملف السوري طبقاً لما هو معروف وشائع في نظام العقوبات الأميركية سيكون محدوداً، وأن نتائجه ستكون عكسية، وستحقق المزيد من معادلات التفوق في منظومة دمشق موسكو طهران بغداد وبكين. وعليه فإنّ قانون قيصر لن يضيف جديداً في سياق الحرب على سورية، خاصة أنّ الدولة السورية باتت بيضة القبان في أي موازنة إقليمية.

قيصر والانتقام الأميركي من سورية

فقد بات واضحاً أن قانون قيصر تمت هندسته وصياغة بنوده وفق نظرية الثأر الأميركي من سورية، إذ أنه وبصرف النظر عن الادعاءات الأميركية لجهة حماية المدنيين في سورية، فإنّ المحرك الأساسي والرئيس لـ ترامب وإدارته، انطلقت من دافع الانتقام والثأر للولايات المتحدة وحلفائها من سورية وحلفائها، فالولايات المتحدة من الواضح أنها لم تستطع تقبل فشلها في الساحة السورية، ولم تستطع تحقيق غايتها بإسقاط النظام السياسي في سورية، وهي تحرص على إبقاء الساحة السورية ميداناً للكباش السياسي والعسكري إقليمياً ودولياً، فضلاً عن العمل على خنق سورية اقتصادياً لإثارة وتأجيج التناقضات الداخلية في سورية، وفق سيناريو انهيار الدولة السورية وغرق حلفاء دمشق في فوضى عارمة غير قابلة للضبط، وهي بذلك تدفع سورية وحلفاءها للاحتفال بنصر مسموم بـ أكلاف باهظة.

في جانب موازٍ، فإنّ ترامب يسعى للحفاظ على أمن الكيان الإسرائيلي، ولتحقيق هذه الغاية، فقد عمدت الإدارة الأميركية على جدولة مهامها في المنطقة عموماً وسورية على وجه التحديد، فالعمل على إخراج إيران من سورية هي أولوية قصوى، وعطفاً على الدعوات في لبنان لنزع سلاح المقاومة، والمحادثات مع الحكومة العراقية لوضع صيغة البقاء في العراق وليس الخروج منه، كلّ ذلك بالتوازي مع بنود قانون قيصر، إذ لم تعد واشنطن ترى في خيار الحرب ضدّ محور المقاومة ناجعاً ويحقق غاياته، نتيجة لذلك، لم يبق سوى سلاح الحصار والتجويع وخلط الأوراق في سورية ولبنان والعراق وإيران، لإشاعة الفوضى والتدمير. وبطبيعة الحال فإنّ هذه المعادلة الأميركية ستصطدم بلا ريب بأصدقاء المحور روسيا والصين، ما يعني سعي موسكو وبكين للوقوف ضد المسار الأميركي الجديد في المنطقة، لإفشال الخطط الأميركية.

***

ختاماً، فإنّ الإدارة الأميركية وجراء سياساتها الداخلية والخارجية، تراكمت في مسارها ألغام متعددة الجوانب، من كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، مروراً بالاحتجاجات الأميركية على خلفية مقتل جورج فلويد، وصولاً إلى مواجهات حافة الهاوية مع الصين وايران، وعطفاً على الرغبات الأميركية بتحجيم الدور الروسي في عموم الشرق الأوسط، كل ذلك يجعل من سورية هدفاً بعيد المنال، وغير ذي نفع، وعليه فإن الإدارة الأميركية ليست بصدد التركيز على سورية سياسياً وعسكرياً، بقدر ما تحاول خنق الشعب السوري وتجويعه وتأليبه ضد حكومته، وفي جانب آخر، تحاول من خلال ذلك، جذب روسيا إلى طاولة مفاوضات الحلّ النهائي في سورية، ويكفي التوقف عند ما رشح من شروط أميركية سبق أن قدمت إلى الروس خلال المشاورات الروسية الأميركية بشأن مكافحة الإرهاب في 9 أيلول/ سبتمبر 2019 في فيينا، للتأكد من أنّ ما تريده واشنطن هو قبول الدولة السورية بالشروط الأميركية فقط، دون ذلك، فإنّ الساحة السورية التي ألحقت الكثير من الهزائم بالولايات المتحدة، تتحرك وفق نظرية الثأر تجاه من أفشلوا المخطط الأميركي في سورية والإقليم.

 

*رئيس تحرير شبكة فينيقيا للأبحاث والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى