ثقافة وفنون

أمين الذّيب يُخاتل الموت!

} د. باسل الزين*

عرفتُهُ لَبِقًا منذ المكالمة الهاتفيّة الأولى، وأبًا في مكالمتنا الهاتفيّة الأخيرة، وما بين هاتين المكالمتين عرفتُه شاعرًا وناقدًا وأمينًا وتوّاقًا ومُجدّدًا ومنظّرًا ووقورًا ومتّزنًا وقبل كلّ شيء إنسانًا.

لم أعرف شاعرًا يذود عن أحلامه كما ذاد أمين الذيب في الدفاع عن مشروعه. كان يُسابق الزّمن ويسبقه، لكنّ قدر العظماء أن يخسروا معركتهم الأخيرة. ومع ذلك فقد أعدّ لرحيله ما استطاع من مشروع أدبيّ تجديديّ نهضويّ كبير، وأخذ على عاتقه بناء مؤسّسة فكريّة تنهض بالمجتمع، وتُعيد شحذ العقول الخاملة، وتستنهض الهمم الغافية.

كان أمين الذّيب يتنفّس من رئة الأدب الوجيز، وينفث مع دخان سيجارته التقاليد البالية، والسّكون المميت. زمانه ليس كزماننا، يختصر لحظاته في الإضافة وطلب المزيد، وينفق أوقاته في تصويب أدقّ التفاصيل في هذه العمارة الفكريّة التي شيّدها بمعيّة كوكبة من الأسماء اللامعة التي أحسن انتقاءها، وجهد في تقليب فصول الوجز على مسامعها، فأخرج مكنوناتها، وكشف فيها عن طاقات دفينة. لم يعرف معنى التراجع يومًا، ولا عرف معنى الاستسلام. وليس غريبًا، من بعد، أن يصل تالدَ العالم العربيّ بطارفه، ويجمع طاقات، ويوحّد شتات أفكار، ويضمّ رؤى متجانسة بعضها إلى بعض في نشاط قلّ نظيره، وعمل دؤوب، ورصانة فكريّة، وروح حواريّة، وتنظيم مؤسّسيّ، وإلحاح استشرافيّ.

رحل أمين الذّيب، فكيف سوّل الموت لنفسه أن يُرغم رجلًا يحمل قلوبًا في جسد واحد على الرحيل؟ هذا الرجل الذي حمل قلبًا ينبض محبة لكلّ من حوله، يُعاين أحوالهم، ويتقصّى أخبارهم، ويندفع بروح أبويّة للوقــوف إلى جانبهم، والدفاع عنهم، ومراعاة ظروفهم، والإنصــات إلى مشاكلهم، ومحاولة اجتراح حلول لكلّ ما يقضّ مضجعهم.

لكن، كيف لرجل مثله أن يرحل؟ كيف لمؤسّس ملتقى الأدب الوجيز أن يتصالح مع الموت وقد خلّف وراءه مؤسّسة ثقافيّة ناهضة تلهج باسمه، وتسير على هَديِ تعاليمه؟ يقيني أنّها المرّة الأولى والأخيرة التي يُخاتل فيها أمين الذّيب. لقد خاتل الموت فظنّ هذا الأخير أنّه اختطفه، في حين أثبت بالغياب الصّرف حضوره البهيّ، وسطوعه الدائم، وحكمته التي لا تنتهي.

 

*عضو ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى