مقالات وآراء

إيران الدبلوماسية الباردة والنفس الطويل…

} د. علي سيد

 قلَبَ انتصار الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 الأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط والتوازنات الدولية ولا تزال تأثيراتها ملموسة حتى يومنا هذا.

 فمنذ انتصار الثورة في إيران أعلنت عدم تبعيتها للشرق والغرب وبعبارة أخرى الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، ودفعت أغلى الأثمان للحفاظ على شعارها.

 حصار إيران لم يبدأ منذ سنة أو سنوات بل بدأ منذ انتصارها وما زال، فقد أعلنت معارضتها لأميركا والغرب والكيان الصهيوني منذ نشأتها وهي ما زالت تدفع ثمن هذه المعارضة.

 دولة محاصرة بشتى الوسائل، وما زالت لاعبة أساسية على المستوى الإقليمي والدولي، تقارع أعتى دولة في العالم وتلك الدولة (وهي أميركا) لا تفوّت أيّ فرصة للتضييق عليها ومحاربتها في شتى المجالات والمحافل، بالرغم من ذلك نجد إيران باستراتيجيتها الواضحة ونفسها الطويل تنزل الخيبة تلو الأخرى بمن يريد أن يحاصرها وينتقص من هيبتها وقوتها وقدرتها، فلم نشهد في تاريخ العلاقات الدولية حصاراً يستمرّ 41 سنة لدولة يبلغ عدد سكانها 79 مليون نسمة، وبالرغم من ذلك تشهد تطور في كافة المستويات بشكل عام.

بمقاربة بسيطة بين مصر التي وقعت اتفاقية كامب ديفيد منذ 42 سنة وانتصار الثورة الإسلامية في إيران نرى الفرق شاسعاً على المستويات كافّة، فالأولى لا ترزح تحت أيّ حصار، ولقد وعدت بعد سنة 1978 بالتطور والإزدهار والمنّ والسلوى في حال وقعت اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني ووضعها الآن وبعد 42 سنة من الإتفاقية لا تُحسد عليه ولا يخفى على أحد، أما إيران فبالرغم من الحصار الذي بلغ ذروته والحروب التي فُرِضت عليها بمختلف الوسائل (على سبيل المثال حرب الثمان سنوات مع نظام صدام حسين المدعوم من أميركا والغرب ودول الخليج).

أطلقت منذ أشهر قمرها الصناعي وكشفت النقاب عن برنامج فضائي سري أثار حفيظة الرئيس ترامب (المضطرب سلفاً) وهذا يشير إلى استعداد إيران المستمر لتطوير قدراتها العسكرية وسط حصارها الاقتصادي ناهيك عن الكشف، كل فترة، عن تطوير صواريخها الباليستية ويكشف أيضاً عن طموحاتها لإنتاج صواريخ عابرة للقارات.

سجّلت البحرية الأميركية سنة 2015، 22 حادثاً مع سفن الحرس الثوري التي خاطر كثير منها بالتصادم مع سفن البحرية الأميركية، كما سجل 36 حادثاً مماثلاً في سنة 2016، بما في ذلك استيلاء قوات الحرس الثوري الإيراني على زورقين تابعين للبحرية الأميركية واعتقالها 10 بحارة أميركيين لمدة 15 ساعة وتصويرهم بالفيديو (أي دولة تجرؤ على هكذا عمل؟)

في عام 2017 اضطرت سفينة حربية سريعة أميركية إلى تغيير مسارها لتجنّب الاصطدام مع زوارق سريعة إيرانية كانت تقترب منها، وغيرها من الأمثلة الكثيرة للتعاطي الإيراني مع الغطرسة الأميركية والذي يدلّ على قوة الردّ والرّدع الإيرانيّين وعدم الخضوع للبلطجة التي تجيدها الولايات المتحدة جيداً، وهذا يدلّ على الاستخفاف الإيراني بالحصار الغربي عليها وعدم رضوخها للهيمنة، ولقد اتبعت في ذلك قاعدة: أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم.

كذلك، في عام 2017 أعلن الرئيس ترامب عن سياسة أميركية جديدة حيال إيران، وبأنها لن تتسامح مع الإستفزازات، ولكن هل خافت إيران أو تراجعت أو بدّلت في طريقة تعاطيها؟ الجواب: في 12 أيار 2019 زرعت البحرية التابعة للحرس الثوري ألغاماً قرب الفجيرة وفي حزيران من العام نفسه أيضاً زرعت ألغاماً في سفينة يابانية وأخرى نروجية عند خليج عُمان وبعدها بأيام استولت سفن الحرس على ناقلة تحمل العلم البريطاني عند عبورها مضيق هرمز، والردّ الصاروخي على اغتيال الشهيد قاسم سليماني، وفي 14 نيسان من العام الحالي احتجزت إيران ناقلة بترول تحمل علم هونغ كونغ في المياه الدولية وأبحرت بها إلى المياه الإقليمية الإيرانية، وبعدها بيوم اقترب 11 زورقاً للحرس الثوري من خمس سفن أميركية حتى وصل أحدها على مسافة 10 أمتار! لم تكترث الجمهورية الإسلامية وقيادتها لتحذيرات الرئيس ترامب وتهديداته، وها هي منذ أسابيع تتحدّى الإدارة الأميركية بإرسالها خمس سفن محملة بالنفط إلى فنزويلا.

سردت هذه الأمور لأقول إنّ تكلفة الصمود وعدم الإذعان أقلّ بكثير من تكلفة الخنوع والانبطاح أمام مشاريع أميركا والغرب، فالدول التي خضعت منذ أكثر من أربعين سنة أين هي الآن على المستوى الاقتصادي والعسكري والإقليمي؟ وفي المقابل أين إيران بعد 40 سنة من الصمود والرفض والاعتماد على الذات؟ فهي برغم الحصار الخانق تكاد تصل إلى الاكتفاء الذاتي، وهي تقوم بأهم الأبحاث والاكتشافات على المستوى العالمي وتقارع أعتى دولة متغطرسة في العالم، وبرغم الحصار تقوم بدعم قوى التحرّر والممانعة من فنزويلا حتى غزة ويُحسب لها ألف حساب في السياسات والتوازنات الإقليمية والدولية.

التفوّق العلمي هو القوة الناعمة التي تنتهجها إيران بامتلاكها أكثر الجامعات في المنطقة معترفاً بها عالمياً، والأسرع في نشر الأبحاث والتي تُعَدّ بالآلاف سنوياً، فقد كشفت التصنيفات العالمية للجامعات تبوؤ جامعة طهران المرتبة الـ 390 عالمياً كما توجد 707 جامعة إيرانية في قائمة التصنيف هذه، حيث تعدّ تسعة منها ضمن أفضل 1000 جامعة في العالم، فالتنافس المستقبلي بين إيران وأميركا والغرب سينتقل من التنافس العسكري إلى التفوق العلمي لذلك تقوم إيران بتعزيز البحث العلمي والتخصصات التقنية والتكنولوجية.

الجمهورية الإسلامية في مواجهة العقوبات القاسية اتبعت عدة أمور أثبتت من خلالها دبلوماسيتها الباردة ونفسها الطويل، فقامت باتباع سياسة خارجية نشطة تعمل على كشف التوجه الأحادي لترامب الهادف إلى تجاهل القانون الدولي والتي يقودها وزير الخارجية المحنك محمد جواد ظريف، وأيضاً بلوغ إيران مرحلة الاكتفاء الذاتي في إنتاج البنزين وهي الآن دولة مصدرة لهذه المادة، كذلك القيام بتطوير نظام أعمال جديد من خلال تشجيع تأسيس القطاع الخاص لشركات ناشئة كجزء من استراتيجية تهدف إلى الحدّ من الاعتماد على عائدات النفط، وعليه فقد تمّ إنشاء مجمع بارديس للتكنولوجيا الذي يغطي مساحة 60 هكتاراً، وهو أكبر مركّب جامعي في غرب آسيا وأولى مهامه تحويل الاقتصاد القائم على النفط إلى نظام اقتصادي قائم على المعرفة وهو يعادل «وادي السيليكون» في أميركا، وهناك تعزيز لقدرات إيران في قطاع صناعة الأغذية وحققت اليوم اكتفاءً ذاتياً بنسبة 82%، أما خيار إيران الاستراتيجي فهو التوجه إلى محور آسيا، وعليه فقد تبنّت سياسة تعمل على تعزيز العلاقات مع خمسة من الاقتصادات الناشئة الأخرى وهي: البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا، المعروفة تحت إسم (مجموعة بريكس) فهي تبحث عن شركاء خارج حدودها الإقليمية.

يكفي أن نذكر أنّ إيران بقيت لمدة 11 سنة تناور وتتحاور وتتباحث بشكل غير مباشر حول الاتفاق النووي واستمرت لمدة 20 شهراً بمباحثات مباشرة مع مجموعة 1+5) حتى تمّ التوقيع على الاتفاق سنة 2015 والذي انسحبت منه الولايات المتحدة الأميركية في 8 أيار 2018.

المنطق والعقل يقولان بأن نأخذ العبر ونستفيد ونتعلم من تجارب الآخرين وحتى الأخصام، فلماذا لا نستفيد ونعتبر من الأصدقاء والحلفاء، الذين وقفوا إلى جانبنا في أحلك الظروف؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى