أولى

ترامب في أربع سنوات

 سعاده مصطفى أرشيد*

تأثر الآباء الأوائل وأبطال الاستقلال في الولايات المتحدة بقيَم مفكري عصر النهضة وفلاسفة العقد الاجتماعي في أوروبا، الأمر الذي انعكس وظهر جلياً في وثيقة إعلان الاستقلال وخاصة ديباجتها التي أبدعها بنجامين فرنكلين وتوماس جيفرسون، ثم في وثيقة الحقوق وتعديلاتها العشرة ( united states bill of rights ) التي صاغها جيمس ماديسون. عالجت الوثيقتان بشكل نظري دقيق قضايا حقوق المواطن والحريات العامة، ووضعت حداً فاصلاً يحول دون سيطرة الجهاز التنفيذي للدولة على القضاء المستقل، وما لبثت أن أصبحت تلك الوثيقتان نبراساً عالمياً ينافس حيناً ويتكامل حيناً آخر مع شعارات الحرية والإخاء والمساواة التي أعلنتها الثورة الفرنسية.

لكن حسن الصياغة وجمال النص لم يستطع أن يحصّن المجتمع الأميركي من الفتك بالأميركان الأصليين أو ما يُطلق عليهم اسم الهنود الحمر وإقامة العالم النظري الجميل على أنقاضهم وجماجمهم، ولما كان الظلم والوحشية لا يعرفان حدوداً، فإنّ ذلك سرعان ما انتقل إلى مجتمع المهاجرين المتباين، فمنهم البروتستانت الهاربين من ظلم الكاثوليك في فرنسا وألمانيا، ومنهم الكاثوليك الايرلنديون الهاربون من سطوة البروتستانت الانجليز، ومعهم جموع من المغامرين والبائسين والباحثين عن الذهب والثروة، ثم من استقدمهم هؤلاء مكبّلين بالحديد من أفريقيا، أخذت الحرية في بلاد الحرية شكلاً مختلفاً عن معناها الاجتماعي المتعارف، إذ أصبحت الحرية هي حرية جمع المال ومراكمته بأيّ ثمن، وبلا أيّ رادع، وأصبح رأس المال هو القيمة الأساس في المجتمع وصاحب رأس المال الجشع هو السلطة وهو القانون وهو من يوظف في خدمته السياسي والأكاديمي في الدور الأعلى من ناطحة السحاب فيما المواطن العادي والمستهلك في الأدوار السفلى. قد لا يكون ذلك بأمر مستغرب لبلد تمّ اكتشافه من خمسة قرون فقط اعتبرها المفكر الشهير نعوم تشومسكي خمسة قرون من الحرب ولا تزال. إذ ما لبثت الوحشية أن دوّلت لتصبح تغوّلاً أميركياً على العالم بأسره.

بقيت تباينات المجتمع الأميركي تحت السيطرة غالباً، ولكنها كامنة تنتظر أن تطلّ برأسها عندما تتوفر الظروف الموضوعيّة لانفجارها، أو أنها تكون بانتظار حدث صغير يتدحرج ليكشف عورات ذلك النظام، وهذا ما حصل في حادثة مصرع المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد والتي كانت تمريناً لحراك اجتماعيّ أوسع قد يحصل في المستقبل.

أقلّ من مئة يوم تفصلنا عن الثالث من تشرين الثاني، يوم الاستحقاق الانتخابي للرئاسة الأميركيّة، ليتقرّر بموجب نتائج ذلك اليوم إلى أين يسير العالم، لكن عالمنا العربي فقد حسمت بعض الملفات الهامة خلال رئاسة ترامب وسيحسم أمر المزيد في ما تبقى من أيام على رئاسته، ولن يكون باستطاعة الرئيس الجديدفي حال فوز بايدنأن يعود بها إلى الوراء كقضية ضمّ الجولان، والقدس ونقل السفارة الأميركية إليها.

يملك ترامب مصادر قوة يحاول البناء عليها، ورأس مال انتخابي يمثل ثلث الناخبين، وهم الانجيليون والمتطرفون العنصريون، مع ذلك فالأجواء الداخلية داخل الولايات المتحدة تعاني من تشنّجات وانقسامات، يرى فيها بعض المحللين مقدمات لاشتباك داخلي محتمل، قد يكون به نار ودم، وهو أسلوب كان من المفترض أن المجتمعات الغربية قد تجاوزته ولم تعُد تحسم أمورها بالطرق الخشنة، إلا أنّ شخص الرئيس وأداءه كان لهما دور في تعميق أزمة النظام، وأدّت إلى اتساع دائرة التوتر، كلما ضاقت فسحة الوقت التي تفصلنا عن تشرين الثاني المقبل.

دونالد ترامب وشخصيته الإشكالية غبر المستقرة، والتي تذكر بحكام مرّ ذكرهم في التاريخ، قديماً الإمبراطور الروماني نيرون والحاكم بأمر الله الفاطمي، وحديثاً الزعيم الألماني أدولف هتلر والرئيس الأوغندي الأسبق عيدي أمين والقائمة تطول. لطالما تمّ النظر للرؤساء الأميركان على أنهم من أحد نوعين، النوع الأول هو الرئيس الموظف وهو من أصحاب الإمكانيات والقدرات العادية، يعمل في خدمة الشركات الكبرى والاحتكارات ومن هؤلاء رونالد ريغان وبوش الابن ويمثل الرئيس في هذه الحالة واجهة أكثر منه حاكماً، والنوع الثاني هو الرئيس الزعيم، صاحب الرؤى والمعارف، في ذهنه برامج وسياسات، وهو يقود بلاده وشركاتها واحتكاراتها وأمنها وجيشها باعتباره الأولوليس الوحيدفي الدولة العميقة، ومن هؤلاء جورج بوش الأب وبيل كلنتون، ولكن دونالد ترامب مثّل نوعاً ثالثاً طارئاً وخارجاً عن مألوف الرؤساء، ضعيف الإمكانيات، ومحدود الرؤى، ومع ذلك يتنازع مع الدولة العميقة، غير ملتزم بسياساتها المحلية والعالمية، على الصعيد الداخلي، شهدت الولايات المتحدة في عهده انقساماً غير مسبوق، ربما منذ الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر، وذلك على صعيد المجتمع الفدرالي، ولم يكن ذلك الانقسام قائماً على أسس فكرية فلسفية أو عقائدية وإنما على أساس طبقي وعرقي، ولم يكن حول كيفية حكم الأميركي للعالم وإنما حول كيفية حكم الأميركي لنفسه، جاءت جائحة كورونا لتكشف عورات نظام الرعاية الاجتماعي مع تفاقم البطالة وإغلاق كثير من المصانع والشركات، ثم العمل بعناد على إلغاء (أوباما كير) برنامج الرعاية والتأمين الصحي الذي أقرّ في عهد الرئيس أوباما والذي راعى الأوضاع الصحية للطبقات الفقيرة، ويريد استبداله بنظام جديد يحرم ملايين الأميركان من الرعاية في حين يخدم القطاع الطبي الخاص غير آخذ بعين الاعتبار جائحة كورونا وآثارها الصحية، وقد وصل الخلاف إلى الكونغرس وظهر للعلن بالسلوك الرعاعي لترامب والمتعالي للسيدة بيلوسي رئيسة مجلس النواب الديمقراطية. على الصعيد الخارجي، اختلف مع روسيا المتهمة بدعمه في الوصول إلى سدة الرئاسة، واشتبك مع الصين، ولا يزال يدفع باتجاه تصعيد التوتر مما قد يصل بالأمر إلى حافة المواجهة الساخنة، وأعلن العداء لفنزويلا وحاول اغتيال رئيسها الشرعي، وأشاد جدار كراهية مع المكسيك، وأجبر الأوروبيين على مجاراته في ما يعود عليهم بالخسارة، ثم ألغى الاتفاق النووي الذي أبرمته الإدارة الأميركية السابقة مع إيران، ويتحرّش بهم في الخليج وشرق المتوسط بشكل يدعو للقلق في حال خرجت التحرشات عن السيطرة. تدخل في العراق، ودعم الإرهاب والتطرف في سورية وأيّد ضمّ «إسرائيل» لهضبة الجولان المحتلة، سفيرته في بيروت تجول في لبنان وكأنها مندوب سامٍ من بقايا الاستعمار القديم، دعم الأكراد ثم تخلّى عنهم.

فوز بايدن المحتمل قد يحدث انفراجاً في كثير من الملفات، ولكن شراكة ترامب مع نتنياهو التي كانت الداعم الأكبر للأخير في ضمّ القدس والجولان، وستكون مستمرة في ما تبقى من المئة يوم الآتية، عندما ينفذ نتنياهو عملية ضمّ ثلث الضفة الغربية، غير مكتف بالحجج التوراتية والحاجات الأمنية وإنما متدثراً بصفقة ترامب التي أوردت الضمّ باعتباره رؤية أميركية أيضاً.

دونالد ترامب رئيس أقوى دولة بالعالم، رجل خطر فماذا يمكن أن يفعل حتى الثالث من تشرين الثاني المقبل، وخطورته أنه غير متصالح مع نفسه، فكيف له أن يتصالح مع غيره، سواء أكان من مواطنيه الأميركان، أم من حلفائه الأوروبيين، أم من شركائه بني الإنسان؟

*سياسي فلسطيني مقيم في جنينفلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى