مقالات وآراء

العبور إلى وطن

} عصام الحسيني

قال أرسطو: «إنّ الإنسان هو حيوان سياسي»، وهو بذلك يكون قد قدّم أول تفسير لنشوء الدولة، ببعدها السوسيولوجي.

لقد مرّت المجتمعات الإنسانية في تحوّلات تاريخية، حتى وصلت إلى مفهوم الدولة المعاصرة في صورها المنجزة، وهي دولة ما بعد الحديثة.

والدولة في مفهومها القانوني، هي مجموعة سلطات دستورية، اختلف فقهاء القانون الدستوري، في تفسير ظروف وطبيعة نشأتها.

 تاريخياً، وحيث أنّ السلطة هي في الأصل سلطة فردية، تبدأ من ربّ الأسرة، وتنتقل إلى الجماعة القبيلة، ثم إلى المجتمع في إطار المدينة الدولة اليونانية في القرن الخامس (ق. م.)، لتصبح في الدولة الحديثة سلطة دستورية.

وهذه الصيرورة لسلطات الدولة، شهدت أشكالاً عدة لأنظمة الحكم، من ملكية مطلقة، إلى إقطاعية، إلى بورجوازية، إلى ديمقراطية ليبرالية أو اشتراكية، إلى ملكية دستورية، وغيرها من أشكال الحكم المتعددة، حيث تكون ثقافة المجتمع ودينامية تطوّره، هو المحدّد لهذه الأشكال من الحكم.

غير أنّ دولة ما بعد الحديثة، ليست الصورة المنجزة بالمطلق، حيث ما زال العديد من أشكال السلطات القائمة في العالم، تعيش في تاريخ الأنظمة القديمة، وخاصة في المناطق المغلقة، حيث المحافظة على منظومة من المعتقدات، والثقافة الاجتماعية المتوارثة.

ويسعى علماء الأنثروبولوجيا لإخراج هذه المجتمعات المغلقة، إلى واقع الدولة المعاصرة، في خلق ثقافة اجتماعية جديدة، تتناسب ما أمكن مع روح العصر.

لكلّ ما تقدّم، أين يقع النظام السياسي اللبناني من هذا التصنيف، وهل نشأت الدولة اللبنانية، هي نتيجة طبيعية لعقد اجتماعي، أم هو نتيجة صيغة غير طبيعية، فرضها الانتداب الفرنسي لمصلحة فريق معيّن؟

إنّ النظام السياسي اللبناني حسبما ورد في مقدمة الدستور:

هو نظام جمهوري ديمقراطي برلماني، يقوم على احترام الحريات العامة، وعلى العدالة الاجتماعية، وانّ الشعب هو مصدر السلطات.

إنّ هذا النص الدستوري من حيث النظرية، لا يتطابق مع النظام السياسي الفعلي القائم، منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، إلى يومنا الحاضر.

لقد أدخل إلى جانب النص الدستوري، مفهوم الديمقراطية التوافقية، والتي صبغت النظام السياسي باللون الطائفي، وأدّت إلى خلق أحداث كبيرة منذ عام 1958، وحتى يومنا هذا.

لقد تمّ تحديد سياسة توافقية غير مكتوبة، أدخلت على الميثاق الوطني لعام 1943، والذي أسّس للنظام السياسي الطائفي على تعداد عام 1932، والذي يُعتبر عرفاً ملزماً للدستور اللبناني، حيث تمّ تعديله في اتفاق الطائف عام 1989.

لقد أثبتت الأحداث، أنّ النظام السياسي الطائفي، لم يعط استقرار للجمهورية، بل على النقيض من ذلك، كان دائماً سبباً من أسباب تفجّر الصراع الداخلي، وخلق حاجة ملحة لتدخل أجنبي خارجي، وهو ما أوصلنا إلى توصيف الدولة اللبنانية، بالدولة الفاشلة المشكوك في سيادتها.

لقد ورد في اتفاق الطائف، وفي البند (ز):

أنّ إلغاء الطائفية السياسية هو هدف وطني أساسي، يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية.

لكن ولتاريخه، لم يعمل على تحقيق هذا الهدف الوطني، فما هي الأسباب التي تحول دون ذلك؟

إنّ دينامية المجتمعات الإنسانية، تسعى دائما إلى التطور، والتغيّر نحو الأفضل، ومعظم المجتمعات السياسية عاصرت هذا التطوّر، حتى وصلت إلى دولة ما بعد الحديثة، شرط أن تكون قد نفضت معتقدات التخلف على كلّ المستويات، بما يخدم حركة تقدّمها.

ويحدث كما في واقعنا اللبناني، أنّ دينامية التصوّر لمجتمع متطور، لم تنضج في ثقافتنا الاجتماعية، وتعلقنا بمنهج الأصالة والمعتقد، أقوى بكثير من تصوّرنا لمنهج الحداثة والعلم.

 ويعود أسباب هذا الواقع، بعدم قدرة المجتمع من فكّ ارتباطه بالأصالة، إلى وجود مؤسسات دينية واجتماعية وإقطاعية، تفرض عليه العيش ضمن منظومتها الفكرية والسلوكية.

أولا: في المؤسسات الدينية:

الدين هو ثقافة إنسانية، وعنصر غنى اجتماعي، يعطي للمجتمعات قيمة أخلاقية إضافية، شرط ألا يستغلّ من ألمؤسسات أو الأشخاص لغايات خاصة.

وغالباً في الواقع اللبناني، ما كان النص الديني، يستعمل لأهداف خاصة لا علاقة لها بالدين، مما خلق فكر طائفي، وهو نقيض التديّن، أتى خارج السقف الوطني والاجتماعي.

وكانت المؤسسات الدينية بمعظمها، عاجزة عن الخروج من دائرة مصالحها، مما أوقف دينامية التطور الاجتماعي، وهي وظيفة تتناقض مع الرسالة الدينية، في نشر السلام والمحبة.

إنّ الحروب الدينية، ليست حروب أيديولوجية بمعظمها، بل حروب مصالح في صياغة دينية، استغلها تاريخياً الاستعمار لتحقيق أهدافه الاستعمارية، وأوضح مثال ما قامت به إنكلترا في الشرق الأوسط، في النموذج الخليجي والمصري، لمنع قيام قومية عربية، نموذج الحرب على الرئيس جمال عبد الناصر قبل فترة الاستعمار الأميركي وبعده.

وأتى النظام السياسي الطائفي اللبناني، ليكرّس من مفهوم ملكية وحقوق الطوائف، وهو صراع في جوهره سياسي، لتكريس هيمنة فئة سياسية على أخرى، مما أنتج حروب أهلية، وانقسام وطني عمودي، لا علاقة له في رسالة الدين.

ثانيا: في المؤسسات الاجتماعية:

إنّ معظم المؤسسات الاجتماعية، مرتبطة بشكل أو باخر، بالمؤسسات الدينية:

من مدارس، إلى جامعات، إلى صحافة، إلى مستشفيات، إلى أحزاب، وغيرها من المصالح الأخرى، مما أعطى للمؤسسات الاجتماعية، طابع الملحق بالطوائف، ولم تستطع أن تتحوّل إلى مؤسسات وطنية، بالمفهوم المجرد.

مثال ذلك، وجود مؤسسات تعليمة خاصة لمعظم الطوائف، من مدارس وجامعات، وبرامج بمناهج تعليمية تدرس ثقافتها الدينية، وذلك على حساب إهمال مادي ومعنوي للمدرسة وللجامعة الوطنية الرسمية، التي أصبحت عاجزة عن ممارسة دورها التعليمي بشكل سليم.

ويُعتبر فشل إنجاز كتاب تاريخ رسمي موحد للمناهج الدراسية، بمثابة أزمة وطنية، أخلاقية قبل أن تكون سياسية، لأننا في العمق، نرفض أن نقرأ في كتاب وطني واحد.

وينطبق على باقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى، مثل المستشفيات والمؤسسات الإعلامية، والثقافية، والاقتصادية، والأحزاب السياسية، ما ينطبق على المؤسسات التعليمية، ليضعنا أمام واقع الانتماء إلى المكون الطائفي، وليس الانتماء إلى المكون الوطني.

من هنا نفسّر ظاهرة فشل الأحزاب العلمانية، وعدم قدرتها على خلق حاضنة شعبية واسعة، لأنّ ثقافتها العلمانية تختلف وتتناقض مع ثقافة المجتمع، المرتبطة بالمؤسسات الدينية ومصالحها.

إنّ فشل الأحزاب العلمانية، لا يعود إلى وجود قصور أيديولوجي، أو ممارسة حزبية خاطئة، إنما يعود إلى وجود ثقافة مرتبطة بأيديولوجيا دينية تقليدية، تجعل من التغيّر أمراً صعباً، مضافاً اليها العامل الثقافي التقليدي، من عادات متجذرة في ثقافة المجتمع.

ثالثا: في المؤسسات الإقطاعية:

كان فكّ الارتباط بين الإقطاع والفلاح الأقنان، العامل الرئيسي لنهضة أوروبا الصناعية، حيث ولدت من رحمها البورجوازية الوطنية، بفعل أفكار فلاسفة عصر الأنوار.

إنّ الإقطاع ظاهرة قديمة في الاجتماع الإنساني، ولم تستطع لحينه، الكثير من المجتمعات الإنسانية الخروج منه، أو التخلص من آثاره.

ودائما الإقطاع، كان عنصر مواجه شرس أمام حركة التطور، لأنه ركيزة النظام الاجتماعي السياسي القديم، نظام العبودية المطلقة، والملكية المطلقة، التي تقوم على نظام استعباد الآخر، لخدمة السيد الإقطاعي.

في تاريخ لبنان الحديث، عاش الإقطاع السياسي في إمارة جبل لبنان الشمالي والجنوبي، بشقيه الماروني والدرزي، وكانت له منظومته الاجتماعية، ودعامته الدينية، ومؤسساته السياسية، التي أسّست لمنظومة ثقافية ما تزال أثارها السلبية، واضحة حتى اليوم.

ومع دولة ما بعد الحديثة، تحوّلت المفردات للألقاب الإقطاعية، إلى مفردات أكثر قبولا، مع المحافظة على المضمون.

«فالمقاطعجي» الإقطاعي، أصبح اسمه «البيك» أو «الشيخ» أو غيرها، ويقوم بنفس وظيفة الإقطاعي في النظام الاجتماعي، من ملكية عقارية، إلى وصاية سياسية على أتباعه، إلى شرعية دينية، والى تمثيل شعبي في مقاطعته.

وللأسف، لا تزال ظاهرة التبعية للإقطاعي قائمة في بعض المجتمعات، من زمن الجدّ والأب، وهي ظاهرة لا تسمح بالتطوّر الاجتماعي، وتساهم في خلق بيئة متوترة في ما بينها، مرتبط بمصالح البيك وأهوائه.

وفي حادثة تاريخية، تدلّ على التأثير الإقطاعي السلبي على تطوّر المجتمع، ما حصل في حقبة الإمارة:

حيث أراد الفلاحين في الجبل الجنوبي الدرزي، الثورة على الإقطاع الذي كان أشدّ قساوة من الإقطاع الشمالي الماروني، لكن الثورة فشلت في مهدها، بسبب تدخل رجال الدين الدروز، ومنع الرعية من الثورة على الإقطاع، بحجة استهداف الطائفة من باقي الطوائف.

لقد دخل العامل الديني الايديولوجي في مساندة الإقطاع، في حلف مشترك أمام الفلاحين، وهي نتيجة طبيعة لتلاقي المصالح، حيث المؤسسة الدينية تتلقى الدعم المالي والمعنوي من الإقطاع، في حين يتلقى الإقطاع الشرعية الدينية.

وحالياً، يضاف إلى الإقطاع، عامل قوة آخر مضاف هو البورجوازية، مما يركز القوة في يد الإقطاعي «البيك»، ويحوّله إلى مرجعية اجتماعية فوق القانون، ويكون حائلاً ومانعاً لتطوّر بيئته المستغلة لمصالحه، ويتحوّل إلى مقاتل متوحّش في وجه أيّ نوع من أنواع التطوّر الاجتماعي.

 إذاً نحن أمام دولة تتنازع سلطاتها، مؤسسات دينية واجتماعية وإقطاعية، تحول دون عبورها إلى دولة ما بعد الحديثة، تضع لها الخطوط الحمراء، دون القدرة على المواجهة والتغير.

فسلطة المؤسسات الدينية خط أحمر، وسلطة الإقطاعي «البيك» خط أحمر، وسلطة المؤسسات الاجتماعية خط أحمر، ولا يبقى خط أخضر، إلا المواطن الذي لا يرتبط بهذه المؤسسات السيادية، والذي يبحث عن بعض من المواطنية.

إنّ العبور من دولة مسلوبة السيادة، إلى دولة المواطنية، تحتاج إلى فكّ الارتباط مع مؤسسات النظام القديم، بثقافة اجتماعية وطنية، متحرّرة من القيود، تقرأ في كتاب تاريخ وطني موحد.

في العبور إلى دولة المواطنية، نحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، بعيداً عن التبعية الداخلية والخارجية، في دولة راعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى