أولى

ما الذي تريده «إسرائيل» فعلاً من لبنان؟! الترسيم والتثبيت أم الأمن؟!

 د. عدنان منصور*

 

 

من المقرّر أن تبدأ اليوم المفاوضات غير المباشرة بين لبنان والكيان الاسرائيلي، برعاية الأمم المتحدة، من خلال الفريق المنسق الخاص للأمم المتحدة لشؤون لبنان، وبمشاركة الولايات المتحدة، تلبية لطلب من الطرفين اللبناني و»الإسرائيلي»، كوسيط ومسهّل لترسيم وتثبيت الحدود البحرية والبرية.

ومنذ أن أعلن عن تاريخ بدء المفاوضات، كثرت التحليلات، والاجتهادات، والشكوك، والتخمينات عند العديد من المتابعين لملف الترسيم للحدود البحرية العائدة للبنان. فمنهم من ذهب بعيداً في تحليلاته، معتبراً أنّ المفاوضات، ستكون مقدّمة للاعتراف والتطبيع مع العدو، ومنهم من حصر المفاوضات غير المباشرة بمسألة محدّدة واضحة، ترتبط فقط بترسيم الحدود البحرية، وتثبيت الحدود البرية للبنان مع فلسطين المحتلة.

وهناك من لجأ بسوء نية وخبث، الى التشكيك عمداً بالموقف الوطني الثابت للرئيس نبيه بري، ولحزب الله، والعمل على إثارة القاعدة الشعبية العريضة للثنائي المقاوم، وحلفائه ضدّهما، وللقول إنهما تخليا عن الثوابت الوطنية والقومية التي حملاها. وانّ هذه المفاوضات التي ستجري مع العدو، إنما تشكل تمهيداً للاعتراف بالكيان الصهيوني.

 هؤلاء المشككون يريدون تشويه الحقيقة والدور الوطني للرئيس نبيه بري الذي قام به على مدى عشر سنوات، رافضاً الضغوط، والإبتزاز، والتنازل عن حقوق لبنان في ثرواته، أو إجراء مفاوضات مباشرة مع العدو أياً كان مستوى المفاوضين، وهذا ما أبلغه مراراً وتكراراً لكلّ المبعوثين والوسطاء في هذا الشأن، من فريدريك هوف، وبعده هولكشتاين، مروراً بساترفيلد، وصولاً الى ديفيد شينكر.

إنّ لبنان الذاهب الى المفاوضات غير المباشرة بوفده الرسمي، يعرف جيداً ما له، وما يريده من حقوق في منطقته البحرية الإقتصادية الحصرية. (إنّ عبارة المنطقة الاقتصادية الحصرية، أكثر دقة للدلالة على حقّ لبنان في هذه المنطقة من استعمال عبارة الخالصة). حقوق تعتمد وتستند الى الترسيم البحري الذي أودعه الأمم المتحدة، وإلى قانون البحار، والقانون الدولي، والحدود الدولية المعترف بها للبنان، بموجب اتفاقية الترسيم الموقعة بين فرنسا وبريطانيا في 3 شباط 1922 اللتين كانتا تتوليان الانتداب على لبنان وفلسطين، والتي أبرمت يوم السابع من آب عام 1923، وثبتت في ما بعد يوم 4 شباط 1924، وبعد ذلك، أودع محضر الترسيم لدى عصبة الأمم التي أقرّته، والذي بموجبه، أصبحت حدود لبنان دولية مع فلسطين التي كانت تحت سلطة الانتداب البريطاني.

كما يستند لبنان أيضاً، الى اتفاق الهدنة الموقع عليه في 23 آذار 1949، مع الكيان الصهيوني المحتلّ، حيث حدّدت المادة الخامسة منه، على انّ خط الهدنة يجب ان يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين. كما يستند إلى القرار الدولي رقم 425 الصادر عن مجلس الأمن عام 1978، القاضي بانسحاب «إسرائيل» الى الحدود الدولية، رغم انّ العدو قام بعد حرب حزيران 1967 باحتلال مزارع شبعا على مراحل، وأراد التنصّل والتهرّب في ما بعد، من اتفاقية الهدنة التي تمسّكت بها الدولة اللبنانية والأمم المتحدة.

 فما الذي تغيّر في الموقف «الإسرائيلي»، الذي كان يطمح ولا يزال، باقتطاع جزء من مساحة المنطقة الاقتصادية الحصرية العائدة للبنان، ويصرّ على الاحتفاظ بمزارع شبعا، حيث كانت الولايات المتحدة تقف دوماً إلى جانب المطالب «الإسرائيلية»، وتتناغم معها، من خلال ما كان يطرحه ويعرضه مبعوثها ووسيطها فريدريك هوف من اقتراحات وإحداثيات لترسيم الحدود البحرية كحلّ وسط، والتي كانت تقضي بإعطاء «إسرائيل» جزءاً من المنطقة الاقتصادية الحصرية، تبلغ مساحته 300 كلم٢ من أصل المساحة الكلية العائدة للبنان والبالغة 860 كلم٢؟!

لبنان منذ اللحظة الـأولى، كان حاسماً، حازماً، ومتمسكاً بحقوقه الكاملة، لا سيما بعد أن بدأت مشكلة الترسيم البحري وتثبيت الحدود البرية مع «إسرائيل» تطرح نفسها، حيث كان موقف لبنان في هذا المجال ثابتاً ولم يتزحزح. فالموقف اللبناني الواضح، الذي لا لبس فيه، عبّر عنه مراراً رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي كان يتابع ويشرف على ملف الترسيم بكلّ تفاصيله، ويطلع على كلّ صغيرة وكبيرة فيه، متمسكاً بمطالب وحقوق لبنان المشروعة بالكامل، مؤكداً لكلّ من اجتمع بهم من مبعوثين وخبراء لبنانيين ودوليين في هذا الشأن، حرصه الشديد على عدم التنازل مطلقاً ولو على كلم٢ واحد من منطقته الاقتصادية البحرية الحصرية.

 لكن ماذا بعد تحريك عجلة المفاوضات في هذه الظروف الحساسة؟! وما الذي تبغيه وترمي اليه «إسرائيل» من المفاوضات؟! وهل هي فعلاً جادّة للوصول الى حلّ يضمن حقوق لبنان كاملة؟! وهل يريد العدو ويقبل أن يرى فعلاً على حدوده الشمالية دولة نفطية، تعزّز من قدراتها الاقتصادية والمالية والعسكرية، وتحصّنها من أيّ مغامرة «إسرائيلية» في المستقبل؟! لبنان يذهب الى المفاوضات بإرادة قوية، تصرّ وتؤكد على حقوقه المشروعة في منطقته الإقتصادية الحصرية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل «إسرائيل» على استعداد للتخلي عما كانت تطالب به، وعلى أيّ أساس؟! وهل الجانب اللبناني محصّن بما فيه الكفاية، بعيداً عن التسبيس، وعلى استعداد لمواجهة الابتزاز، والضغوط، والتهويل، والتخويف والتلويح بالعقوبات، والنيل من شخصيات، والتلويح بكشف ملفاتها، وذلك لحملها على المساومة والرضوخ، والقبول بما يريده «الإسرائيلي» ومن ورائه الولايات المتحدة؟!

 «الإسرائيلي» ثعلب مراوغ ومخادع، يراهن على الوقت والتطوّرات، وعلى الكثير من جولات التفاوض. فتجارب المفاوضات التي أجرتها أطراف عربية معه خير دليل على ذلك.

 فما الذي جرى لمفاوضات أوسلو ونتائجها مع الجانب الفلسطيني عام 1993، وما الذي حصدته، وحققته القيادة الفلسطينية وسلطتها، وأنجزته بعد 27 عاماً من الإتفاق؟! وأين أصبحت الدولة الفلسطينية، والمستوطنات، وسياسة القضم والضمّ، والتهويد، وتغيير الديموغرافيا الفلسطينية، ووضع القدس، والمستوطنات، والقرارات الدولية، واستمرار الحصار، وآلاف المعتقلين المقاومين للاحتلال؟!! وما الذي أسفرت عنه الاتفاقيات والاجتماعات الدولية من نتائج إيجابية للفلسطينيين، التي انعقدت وجرت في أكثر من مكان وزمان؟! وما منتجع طابا المصري أيضاً، إلا النموذج الحي، من المراوغة والمماطلة للعدو الإسرائيلي. فعلى الرغم من توقيع إتفاقية كامب دايفيد عام 1978 بين مصر والكيان الصهيوني، التي أعطت العدو الكثير، عمدت «إسرائيل» إلى المراوغة والمماطلة، والأخذ والردّ بين الطرفين حتى عام 1989، حيث حسم التحكيم الدولي في نهاية المطاف، الخلاف بين الطرفين لمصلحة مصر. مع العلم، انّ مساحة طابا لا تصل الى كيلومتر مربع واحد.

«إسرائيل»، وعبر نفوذ اللوبيات اليهودية في العالم، وتأثيرها على مواقع القرار في الدول الفاعلة، وعلى شركات الحفر الدولية، لن تسمح بالتنقيب عن النفط في المنطقة الاقتصادية الحصرية العائدة للبنان، قبل توقيعه على اتفاق الترسيم البحري وتثبيت الحدود البرية معها. المنع والرفض «الإسرائيلي» لن تطبقه دولة الاحتلال، عن طريق استخدام القوة، لأنها تعلم مسبقاً انّ اللجوء الى القوة سيقابله حتماً، ردّ عنيف مدمّر على منشآتها النفطية والغازية وغيرها، وهذا ما لا تريده وتحسب له حسابات كبيرة. لذلك قبلت بالذهاب الى مفاوضات لا أحد يستطيع ان يحدّد مسبقاً كم من الوقت ستستغرقه، أياماً أو أشهراً او أعواماً! فأثناء المفاوضات سيبقى التنقيب في المياه اللبنانية معلقاً، إذ انّ «إسرائيل» ومعها الولايات المتحدة، ستعيق ايّ محاولة لأيّ شركة دولية تعتزم التنقيب في المنطقة الاقتصادية اللبنانية الحصرية، تحت الضغط والتهويل والتهديد المبطن، قبل الانتهاء من المفاوضات ومعرفة نتائجها أكانت سلبية ام ايجابية.

ما يهمّ «إسرائيل» وما تطمح اليه، هو أمنها وأمن منشآتها لا سيما النفطية والغازية، خاصة أنها في وضع لا مصلحة لها في الوقت الحاضر، للقيام بأيّ عدوان ضدّ لبنان، تجنباً لردّ صارم من قبل المقاومة، خاصة أنّ «إسرائيل» ترى أنّ المقاومة لن تأخذ المبادرة وتكون هي البادئة بشنّ الحرب، لاعتبارات محلية وإقليمية ودولية، الا اذا اعتُدي عليها وهذا أمر آخر

إنّ إطالة أمد المفاوضات مكسب للعدو، فمن ناحية يضمن له الأمن في البحر، ويحيّد دور المقاومة، بحيث تبقى المنطقة المتنازع عليها بانتظار الترسيم، وبالتالي إحجام وتعليق وابتعاد مشاركة الشركات الدولية في التنقيب فيها، قبل الانتهاء من المفاوضات، ومعرفة نتائجها النهائية، ما يجعل هذه الشركات تتحفظ حتى إشعار آخر، على القيام بأيّ عمل أو استثمار أو تنقيب في منطقة يسود فيها التوتر، وقابلة للاشتعال، والإنفجار في ايّ وقت.

 إذا ما تعمّدت «إسرائيل» إطالة أمد المفاوضات، وتضييع الوقت، فإنّ المعادلة تصبح على الشكل التالي:

استمرار العدو في التنقيب عن الغاز والنفط، قبالة الشواطئ الفلسطينية المحتلة، في حين ينتظر لبنان بدوره نتائج المفاوضات! وبين الإثنين، يضمن العدو امن منشآته، ويضمن أيضاً عدم محاولة أيّ شركة للتنقيب في البلوك 8 و9، لتبقى ثروة لبنان وحتى وقت غير معلوم، معلقة بين الترسيم والتثبيت والتنقيب، وبالتالي يصبح أمن العدو محفوظاً من خلال حرصه على تضييع الوقت، وعدم حصر المفاوضات بمدة زمنية محدّدة، وبالتالي منع الشركات الأجنبية من التنقيب بشكل «سلمي وناعم» في المياه اللبنانية. هذا ما يهدف اليه العدو ويستهدفه في العمق. لبنان يعرف جيداً ما الذي يتوجب على الوفد المفاوض أن يطالب به ويطرحه على طاولة المفاوضات، ويتمسك به، أياً كانت الاعتبارات والضعوط. لكن ما لا نعرفه حتى الآن، هو الذي يدور في خلد العدو الخبيث، ويطالب به، وما الذي ستقوم به واشنطن وتفعله أثناء سير المفاوضات؟! وهل ستكون الوسيط الفاعل، الحيادي، النزيه الذي يأخذ بالقوانين الدولية، لا سيما قانون البحار، أم انها ستمارس الضغوط على لبنان لصالح «إسرائيل»، مستغلة أوضاعه المعيشية والمالية، والاقتصادية، والاجتماعية، والنقدية الصعبة، وحاجته الماسة الى استثمار ثرواته البحرية!

ستبدي لنا الأيام المقبلة، وستكشف المعلوم والمستور، وتبيّن ما إذا كانت فعلاً واشنطن عازمة على حلّ المشكلة من خلال احترامها والتزامها بروح القوانين الدولية ذات الصلة، ام انها ستستمرّ كعادتها في دعم الكيان الصهيوني، وإنْ كان ذلك على حساب الشرعية الدولية وحقوق لبنان المشروعة!

«إسرائيل» تريد الأمن لها قبل أيّ شيء آخر، ولقد قالها بالفم الملآن نتنياهو في بداية التسعينات في كتابه «مكان تحت الشمس»، من «أنه في الشرق الأوسط، يتقدّم الأمن على السلام ومعاهدات السلام، وكلّ من لا يدرك هذا، سيظلّ دون أمن ودون سلام».

وحدها المفاوضات المقبلة التي تحمل في طياتها أكثر من مفاجأة، كفيلة بالإجابة على ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى