الومضة والإدهاش في الأدب الوجيز
} تمارا أمين الذيب*
الومضة نبض من نبضات القلب، وكم من ومضة نومض لنحيا. نومض لنبعث الحياة في جسد شاء القدر أن يكون القلب فيه رحمة، والرحمة ومضة والحياة ومضة والحب ومضة والخلق ومضة. وكل ومضة تنتج عنها ومضات تشكل بنيتها وهيكلها. وتبقى الروح بالومضة الأساس التي استوحاها الشاعر من عالمه المتخطي ليومض ومضات متتالية تعطي للحياة روحاً ومعنى.
وما المعنى اذا كان قد قيل لا جديد على هذه الأرض؟؟
كل لحظة نعيشها هي ومضة جديدة تختلف بشكلها ولونها وأريجها وإحساسها. كلما كان هنالك قلب ينبض بالحياة كان هنالك جديد يولد، وكلما كان هنالك بذار على تربة خصبة كان هنالك جديد. فلا شيء جديداً على هذه الأرض سوى الولادة. فالولادة تختصر نهج الحياة الذي لا ينضب ولا ينفك على البقاء والاستمرار ما دامت كل عوامل الحياة متوفرة. وفي كل ولادة نشعر بالدهشة. دهشة الخلق والعظمة والتأمل بالمولود الجديد الواعد للحياة ولتطورها والحفاظ عليها بأبهى حلاتها. وكيف تستمر الحياة وتتطور إن لم يكن هنالك من جديد على الأرض؟
فالومضة كالوجود، تشع إشعاعاً لتدهش صاحبها قبل سامعها فتحمل معها ومضات متتالية تتأتى من شعاع الومضة الأم لتنتهي بفكرة كاملة متكاملة. فالومضة هي حالة ولادة لفكرة أو رؤية وهي مشروع حياة أو موت. كلما برع الفرد في إبراز فحوى ومضته وإيصالها للمتلقي بانسياب تركت آثارها على المجتمع الذي لا ينمو سوى بالفكر المتأتي من الومضة التي تشع في ذهن المتلقي لينشرها بدوره الى مجتمعه وعالمه علّها ترتقي بالمجتمع. فالومضة إن لم تكن رسالة لخير المجتمع تكون ومضة واهية، أما الومضات التي تشع لتنير عقل المتلقي لتفتح له آفاقاً وأبعاداً جديدة للحياة والوجود هي ومضة جديرة بالاهتمام.
وما الإنسان سوى فكر متحرّك بل حركة مشعة دائمة، الإنسان شعاع دائم متحرك في مداه الخاص أي بيئته الخاصة وقد يضيق أو يوسع المدى ويشع أو ينضب حسب رؤيته وتطلعه الى الحياة والانسان والوجود والكون والماضي والمستقبل. واذا أردنا أن نسلط الضوء على البيئة في المشرق والمغرب العربي نستطيع أن نقول إنها بيئة خصبة، فيها الجبال والأنهار، وفيها الوديان والغابات، وفيها الصحراء والواحات. وهذه الشمولية في البيئة العربية الخصبة المنتجة المتنوّعة والمفعمة بالحياة المعتدلة تارة والصحراوية تارة أخرى، قد أنتجت وموعودة بإنتاج وفير يوازي رقيها وحضاراتها واساليبها المتنوعة.
فما الشعر سوى تعبير عن مكنونات الذات بأسلوب معجون بالحضارة واللغة والأسلوب السائد أو المتخطي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، إن كان الشعر تعبيراً عن الذات بانسياب مطلق، فلماذا اعتاد العرب أن يتطلعوا الى أطر الغرب إن في الشعر أو الأدب أو السياسة أو الإدارة أو الطب؟…
اذا كانت بيئتنا هي البيئة الخصبة التي استشرق الغرب ونهل العلم من ضواحيها، لماذا اليوم كل أعيننا متجهة نحو الغرب وكلنا يقين أن المعرفة المطلقة تأتي من الداخل الى الخارج وليس العكس، وان كان هنالك من علم متأتٍ من الخارج «أي محيط الانسان» يجب ان يكون علماً متأتياً من الملاحظة والتدقيق والتحليل للبيئة الحاضنة وتفاعلاتها واندماجها وتميزها…
وهنا لا بد من القول إن الأدب الوجيز كان ومضة من ومضات الأمين والذي نتجت عنها ومضات متتالية شكلت صلب وبنية الأدب الوجيز مع باقة من المفكرين والأكاديميين الذين ما انفكوا عن العلم والتنقيب لوضع أطر للأدب الوجيز تعبّر عن مكنونات إحساسنا وفكرنا وتطلعاتنا الحياتية والفلسفية..
أما المدهش فهو معلوم مجهول، ومَن منّا في باطنه لا يدرك أهمية الانسان في الفكر والعطاء. وهنا لا بد من تسليط الضوء الى دعوة مؤسس الأدب الوجيز الأستاذ أمين الذيب الى دعوته الدائمة الى كل انسان ومبدع أن يدهش ذاته بإنتاجه الفكري الذي لا ينضب قبل إدهاش الآخرين. وكل فكرة غريبة هي ومضة جديدة قد تقدم شيئاً جديداً للحياة البشرية تدفعها الى الأمام او الى درجات أسمى في الرقي والحضارة والإنسانية.
الإنسان أصبح في حالة تنقيب دائمة عن ذاتيته الإنسانية والفكرية الذي أطرتها العولمة في قوالب جاهزة تخدم مصالح أخرى، لذلك نحن اليوم في ملتقى الأدب الوجيز نسلط الضوء على بيئتنا الحاضنة والفكر النير هو سفينتنا ومرسالنا الى العالم من خلال قلمنا الذي لا ينضب والذي سنسطره بدقات القلب ومضة ومضة.
وما نشهده اليوم على الساحة الأدبية والفكرية لهو دليل قاطع على العدوى الإيجابية الذي يستطيع أن يخلقها الفرد الفاعل في مجتمعه. فالوجود يكمن في التفاعل الإنساني والحضاري والفكري والفلسفي والاجتماعي .. سلبياً كان أم إيجابياً. وكل إيجابية قد تولد خلفها إيجابيات وكل سلبية سوف تولد سلبيات تعكس على الفرد وعلى الساحة الثقافية والفكرية وقد تعكس على كل البيئة الحاضنة.
هذا سر العطاء والحركة. والحركة تنتج حركة والفكرة تولد فكرة أخرى. وكل فكرة أو حركة لا يحرّكها شغف هي فكرة معرضة للزوال. فالهدف والرؤية أسمى من الفكرة بذاتها. فالفكرة من دون هدف مجردة من كل شيء. أما متى وجدت الفكرة لتحقيق هدف سامٍ تصبح فكرة أو ومضة قابلة للحياة. فولادة الومضة تشبه ولادة الطفل ان في تكوين البذرة أو مخاض الولادة أو حتى الدهشة أمام عظمة الخلق والابتكار والوجود والأمل والرؤية للمستقبل والتطلع الى الإمام. والومضة بحاجة الى حضن يرعاها تماماً كما المولود الجديد. فالومضات تومض للمستقبل وكأنها وسيلة سامية للتعبير عن الذات وصنع مستقبل يليق بتطلعاتنا ورؤيتنا للجيل القادم الذي ينمو منا ولنا وعلينا. وما علينا الا أن نحافظ على الأرضية الخصبة التي تليق بأولادنا وأجيالنا القادمة.
وبهذا نستطيع أن نقول إن الأدب والشعر مادة جافة من دون شغف بالرؤية والفعل. كالزواج من دون حبّ، وكالولد من دون أم، وكدودة القز من دون شرنقة.
وهنا لا أستطيع الا أن أستذكر الشاعر أمين الذيب كيف تعاطى مع ومضته الأخيرة «الأدب الوجيز» وكأنه مولود جديد يحضنه برفق وينميه بحب وشغف وعطاء لا محدود وكأنه كان هبته الأخيرة لعالم أحبه وعمل له ليكون الأفضل فرحل قبل أن يتحقق حلمه وكأن لبنان هو حلم الشعراء الذي لا يتحقق رغم ايمانه ان الحياة عطاء واستمرارية وحركة دائمة نحو المستقبل.
وها هي الأيام لولا الماضي والمستقبل لكانت أسطوانة تعيد ذاتها للأزل. من هنا نقول إن التجدد والعطاء والإبداع ما زالا القاعدة الوحيدة للوصول الى مستقبل يوازي تطلعاتنا. والومضة كالنبض كلما تدفقت بعثت الحياة الى الجسد وأصبحت ملكاً له بعيداً عن القلب. فالومضة وأي انتاج فكري هو ملك للعالم.
وهنا أريد أن استشهد بقول جبران خليل جبران حين قال «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم ملك للحياة».
أريد تأكيد الدهشة في الومضة لأقول «ومضاتكم ليست لكم، ومضاتكم ملك للحياة».
وسأنهي بومضة للراحل أمين الذيب:
«هناك .. بعد الأُفق
شجرة تنمو
العصافير تنشد الصباحات
مسافة بين وعيين وومضة».
*عضو في ملتقى الأدب الوجيز.