مقالات وآراء

هل بات مصرف لبنان
قاب قوسين من خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي؟

 د. فادي علي قانصو*

عاد الحديث مؤخراً وبقوّة عن عملية رفع الدعم من قبل مصرف لبنان على المواد الأساسية، خاصةً في ظلّ ما يُحكى عن أنّ الاحتياطيات الأجنبية السائلة لدى مصرف لبنان بلغت حالياً نحو 17.9 ملياراً ولم يتبقّ سوى 850 مليون دولار قبل الوصول إلى عتبة الاحتياطي الإلزامي الذي يبلغ حوالي 17.1 مليار دولار (دون احتساب احتياطي الذهب الذي يقدّر اليوم بحوالي 17.5 مليار دولار). ما يعني أنّ الاحتياطيات السائلة من العملات الأجنبية قد شارفت على بلوغ نقطة حرجة، وبالتالي التلويح بعدم القدرة على مواصلة دعم السلع الأساسية من المشتقات النفطية والقمح والأدوية أبعد من نهاية العام الحالي. في هذا السياق، عقد المجلس المركزي لمصرف لبنان مؤخراً اجتماعاً تناول فيه موضوع استخدام الاحتياطي الإلزامي، وتقرّر في ختام الجلسة البتّ في كافة الخيارات المتاحة خلال الإجتماع الهامّ والمقرّر هذا الأسبوع، منها ترشيد الدعم من قبل المصرف المركزي أو خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي، لا سيّما في ظلّ ما سُرّب من معلومات في الآونة الأخيرة عن أنّ المصرف المركزي قد يخفّض الاحتياطي الإلزامي بالعملات الأجنبية لديه من نسبة 15% إلى %12 وحتى إلى 10%، وذلك على الرغم من نفي حاكم مصرف لبنان ما يتمّ تداوله على هذا الصعيد لجهة خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي من أجل مواصلة دعم الواردات الأساسية في العام المقبل، مع التأكيد بأنه لو تحقّق هذا الأمر فإن الأموال المحرّرة ستعود إلى أصحاب هذه الودائع وليس لأي غرض آخر.

ما هي الاحتياطيات النقدية وما دورها؟

الاحتياطي النقدي هو الودائع النقدية التي يجب على المصارف التجاريّة إيداعها في خزائنها أو في المصرف المركزي، وعادةً ما تحتفظ المصارف بهذه الاحتياطيات لمقابلة التدفق الخارجي للودائع (مواجهة أي سحب مفاجئ من قبل العملاء لأموالهم لدى المصرف). وتنقسم احتياطيات المصارف إلى:

احتياطي نقدي زائد: أي جزء من الودائع تحتفظ به المصارف التجاريّة في خزائنها أو تستثمره في نشاطها. في الواقع، عندما تقوم المصارف بخفض قيمة الاحتياطي النقدي لديها، سينعكس ذلك بالزيادة على الأموال في النظام المصرفي، وبالتالي القدرة على إقراض الأفراد والشركات، حيث ستزداد الأموال المستثمرة من قبل المصارف وعندها تكون هذه السياسة توسّعية. والعكس صحيح، أيّ عند زيادة الاحتياطيات النقدية يحدث انكماش اقتصادي، حيث يحدّ ذلك من كميّات الأموال في النظام المصرفي، وبالتالي التأثير على القروض المقدمة للأفراد والشركات وتكون السياسة انكماشية.

احتياطي إلزامي أو قانوني: هو النسبة الإجبارية التي يحدّدها المصرف المركزي من ودائع العملاء لدى كل مصرف وتودعها المصارف لدى المركزي، وتبلغ هذه النسبة في لبنان 15% من إجمالي الودائع بالعملات الأجنبية. وهو ما يُعدّ من أدوات السياسة النقدية التي يستخدمها المركزي للتحكّم في الأسواق وفي تحديد نسبة السيولة في الاقتصاد. في الواقع، ما تُودعه المصارف لدى المركزي هو لضمان عدم تعرّض المصرف المودع لأي مخاطر في حال حدوث سحب جماعي من العملاء لودائعهم منه. ويمثّل رفع هذه النسبة زيادة في تكلفة المصارف نتيجة للفرصة الضائعة من عدم استخدام رصيد تلك النسبة ضمن السيولة المستثمرة. هذا ويُستخدم الاحتياطي الإلزامي أو القانوني كأداة لسحب أو زيادة السيولة، بما يسهم في التأثير على معدلات التضخم، خاصة من ناحية العوامل المتعلقة بالطلب، حيث كلما زادت السيولة ارتفع الطلب على شراء السلع، لترتفع بذلك معدلات التضخم، فيما العكس صحيح.

الاحتياطي الإلزامي وإطاره القانوني

إنّ المسألة المطروحة اليوم تنحصر حول ما إذا كان ينطبق على الأموال التي يتوجّب على المصارف أن تودعها لدى مصرف لبنان بالدولار الأميركي، المعايير والشروط ذاتها المتعلقة بالودائع العادية الأخرى. وعليه، إذا اعتُبرت المبالغ المودعة لدى مصرف لبنان بمثابة ودائع غير إلزامية، جاز لمصرف لبنان استعمالها، في حين لا يكون جائزاً لمصرف لبنان استعمالها إذا كانت تخضع لإطار قانوني مختلف. وبمعنى آخر، هل يمكن لمصرف لبنان استنفاذ سيولته من دون الاحتفاظ بالمبلغ الكافي لتغطية هذه الودائع الإلزامية التي تشكّل جزءاً من المطلوبات في ميزانيته المعلنة؟

للإجابة على هذا السؤال، لا بدّ بدايةً من العودة إلى تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 86 والمتعلّق بتوظيفات المصارف الإلزامية. وقد أوجب هذا التعميم بموجب مادته الأولى على المصارف كافة أن تودع لدى مصرف لبنان نسبة 15% من جميع أنواع الودائع، مهما كانت طبيعتها، والتي تتلقاها بالعملات الأجنبية. وقد نتج من التزام المصارف بإيداع هذه النسبة الإلزامية وجود مبلغ 17 مليار دولار تقريباً لدى مصرف لبنان، يشكّل جزءاً من مطلوبات هذا الأخير.

من جهة، إنّ المدافعين عن نظرية جواز استعمال مصرف لبنان للأموال المودعة لديه إلزامياً من قِبل المصارف، يستندون إلى نقطتين أساسيتين:

أولاً، لا وجود لنصّ واضح في القانون يستبعد جواز استعمال مصرف لبنان لهذه الأموال المودعة لديه.

ثانياً، إنّ نصّ التعميم الأساسي رقم 86 لم يصنّف المبالغ المودعة على أنّها احتياطيات إلزامية بل اعتبرها توظيفات إلزامية، وذلك خلافاً لنص تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 84 الذي فرض في مادته الثالثة على المصارف تكوين احتياطي إلزامي نقدي لدى مصرف لبنان على مجموع الالتزامات الصافية بالليرة اللبنانية والخاضعة للاحتياطي الإلزامي.

من جهة أخرى، يُجمع أغلب الخبراء الماليون والاقتصاديون على عدم جواز المسّ بذلك الاحتياطي الإلزامي في ظلّ هذه الظروف، على اعتبار أنّ استخدام الاحتياطي الإلزامي يزيد من المخاطر على العملة الوطنية، فكلّما تدنّى الأخير، كلّما تضاءلت الثقة بالليرة اللبنانية وفي القطاع المصرفي ككلّ، وبالتالي تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي بالعملات الأجنبية يعني استخداماً إضافياً لودائع الزبائن الموجودة في المصارف والتي أودعت في مصرف لبنان. في الواقع، إن المشكلة الكبرى تكمن في سياسة الدعم الخاطئة المتّبعة، فالقسم الأكبر من هذا الدعم لا تستفيد منه الفئات الفقيرة والمحتاجة، وبالتالي فإنّ الخطر سيتفاقم إذا ما استمرّينا في تمويل سياسة الدعم نفسها مع استنزاف مستمرّ لما تبقّى من احتياطيات أجنبية، لا سيّما أن نسبة 20% فقط من أموال الدعم تستفيد منها الفئات الفقيرة أو المحتاجة، في حين يتوزّع القسم الباقي بين التهريب (المقدّر بحوالي 30% من قيمة الدعم) وبين الأسر الميسورة والتجار والوسطاء.

هل من حلول بديلة؟

في ظلّ هذا الجمود المُستهجن في عملية تشكيل حكومة إنقاذ تساهم في إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية المستفحلة، عاد إلى الواجهة طرح الحلّ البديل عن المسّ بالاحتياطي الإلزامي ألا وهو ترشيد سياسة الدعم وتحديداً خفض نسبة الدعم على المشتقات النفطية (من 90% إلى 70% أو ربما أقلّ) والتي تستحوذ على نسبة 50% من إجمالي الدعم من قبل مصرف لبنان، خفض فاتورة دعم السلة الغذائية، مع الإبقاء على دعم الأدوية والقمح، وذلك لإطالة أمد فترة الدعم قدر المستطاع. مع الإشارة إلى أنّ احتياجات لبنان التمويلية بالعملات الأجنبية والتي يدعمها مصرف لبنان تُقدّر بحوالي 10 مليارات دولار سنوياً وهي موزّعة على الشكل التالي: مشتقات نفطية بقيمة 4 مليار دولار (الثلث لشراء الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان والثلثين لاستيراد المحروقات من مازوت وبنزين وغاز)، أدوية ومستحضرات طبيّة بقيمة 1.3 مليار دولار، قمح بقيمة 150 مليون دولار، السلة الغذائية بقيمة 2.5 مليار (على أساس تكلفة شهرية بقيمة 210 مليون دولار، مع اتجاه مرتقب لتخفيض هذه الفاتورة إلى 80 مليون دولار شهرياً)، بالإضافة إلى تدخّل مصرف لبنان لتسديد فواتير بالدولار الأميركي تعود لعقود صيانة في قطاعات عدّة منها الاتصالات والأشغال وأعمال المطامر والنفايات وغيرها، والتي تُقدّر بحوالي 1.3 مليار دولار (على أساس تكلفة يومية بقيمة 5 ملايين دولار). أما عن توفير البطاقة التموينية للعائلات المحتاجة كخيار بديل للدعم، فهي وسيلة غير مجدية كونها عرضة للتزوير وعرضة للمحاصصة في عملية التوزيع، وكبديل عنها ينبغي إعطاء اللبنانيين بطاقة الكترونية ذكية للعائلات الفقيرة التي يُقدّر عددها بحوالي 600 ألف عائلة وبكلفة دعم إجمالية قد تصل إلى حوالي 1.3 مليار دولار سنوياً.

في الختام، وفي ظلّ هذه الحاجات التمويلية الملحّة، أي خفض لنسبة الاحتياطي الإلزامي على سبيل المثال من 15% إلى 10%، من شأنه أن يحرّر ما بين 5 إلى 6 مليارات دولار لتمويل استيراد السلع الأساسية (على اعتبار أن الاحتياطي الإلزامي يبلغ 17 مليار دولار)، وبالتالي مع تحرير جزء من هذا الاحتياطي الإلزامي بالتوازي مع عملية ترشيد للدعم على بعض السلع، نكون بذلك قد ساهمنا في شراء بعض الوقت لإطالة أمد فترة تمويل حاجات لبنان الأساسية حتى نهاية العام 2021 تقريباً، بانتظار تحقيق خرق مرجو على صعيد تشكيل حكومة إنقاذ تكون مُنتجة وقادرة على إرساء برنامج إصلاحي ينخرط فيه صندوق النقد الدولي، من شأنه وضع سياسة مالية واضحة المعالم تعبّد الطريق أمام لبنان للخروج من أعتى أزمة اقتصادية يشهدها على الإطلاق.

*خبير وباحث في شؤون الاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى