ثقافة وفنون

ملامح من قضايا النوع الاجتماعي في رواية «حصار الأمكنة»

 

} د. إشراقة مصطفى حامد*

أعتمد في قراءاتي لرواية «حصار الأمكنة» للروائية بثينة خضر مكي على دراسات النوع الاجتماعي وهو معني بدراسة هوية النوع الاجتماعي وهو منهج مستخدم في عدة حقول مثل الأدب، القانون، الإعلام، علوم الاجتماع والسياسة، ودراسات الدراما، الأفلام، علم النفس، والطب إلخ. تتداخل عوامل مثل الطبقة، الخلفيات الاثنية، الأديان والتوجه السياسي. يستحضرني في هذا السياق مرجع مهم جداً استندت عليه كثير من الدراسات في هذا الحقل اتفاقاً أو اختلافاً de Beauvoir, S (1949, 1989). «The Second Sex». أي (الجنس الآخر) الذي يعتبر أحد المراجع المهمة في مناهج الدراسات النوع الاجتماعي. مقولتها المشهورة «لم نُخلق نساء ولكنّ المجتمع خلق منا نساء»، وهي إشارة إلى أنّ المجتمع بتعقيداته الثقافية من قيّد حركة المرأة وجعل منها كائناً أقلّ بسبب النوع.

مصطلح النوع الاجتماعي «الجندر» يشير إلى العلاقات والأدوار الاجتماعية والقيم التي يحدّدها المجتمع لكلّ من الجنسين (الرجال والنساء)، وتتغير هذه الأدوار والعلاقات والقيم التي رسمها المجتمع وهذه الأدوار ارتبطت بالفروقات البيولوجية التي استغلت للممارسة التمييز بسبب النوع وهذا يؤثر على حقوق وواجبات الأفراد. المجال هنا لا يتّسع لتوضيح الفروقات المنهجية بين النوع الاجتماعي/ النسوية والأنثوية.

قبل أن أتناول النوع الاجتماعي في الرواية وهي كما أسلفت ترتبط بالواقع عليه، لا بدّ أن أشير إلى مسرح الرواية وأمكنتها التي برعت الروائية في نقل روح الأمكنة وتفاصيلها لي كقارئة، الوصف الدقيق حتى تحسّ أنك تتجول فيها، بل نقلت راوائحها، الثمار، النباتات، عطور التي فاحت بعطر الحنين لتفاصيل الأمهات والجدات. أكاد أستنشق روائح الليمون الزاهية الخضرة وكأنّ رائحة الورود والريحان تفوح هنا، وليس في واقع افتراضي. بنية المكان متماسكة واستطاعت الروائية بثينة خضر مكي الإمساك بخيوطها بمهارة فلتت في تفاصيل أخرى سوف أشير إليها في نهاية قراءاتي التي سوف أتناولها بالتفصيل مقارنة بالتفصيل مع روايات أخرى للكاتبة.

برعت الكاتبة في وصف الطقوس الأنثوية الذي يستفيد منها الرجل أيضاً. طقوس تم تناولها في روايات أخرى مثل رواية «حوش بنات» و»د العمدة» لسناء جعفر ورواية «آماليا» لمناهل فتحي، وإلى حد ما في «الغابة السرية» ليلى صلاح، إلا أنّ بثينة خضر مكي وصفت الطقوس بانسيابية وكأنها تعرض صوراً على شاشة سينما. طقوس الختان، الأعراس والموت. الطبيعة باذخة في هذه الرواية، تشتم رائحة البحر، تحس تضارب الأمواج. الحركة في الرواية محسوسة ولم تشدني فقط الأمكنة المحسوسة التي كنت أبحث عنها وعن حصارها ولكن قادتني إلى حصار أمكنة الذات، أنفاقها ومطباتها. هذه الأمكنة غير المرئية هي ما يمكن أن يفسر النفس بمختلف حالاتها في شخوص الرواية. ما يقود إلى هذه الأمكنة ليس بداية الرواية وإنما نهايتها المشرعة على احتمالات فرح، عاصفة، أمل، وذلك من خلال الباب المحسوس الذي تركته الكاتبة مفتوحاً.

النوع الاجتماعي يعني تنظيم العلاقات الاجتماعية بين الجنسين كما أسلفت، مثلاً الختان الذي مُنيت به منال، ما أدى إلى عُسر ولادتها و تصفية دمها ودفعت حياتها ثمنا لتقاليد بالية استهدفت المرأة.

ارتبط الشرف بالمرأة دون الرجل، ياسر الذي اغتصب منال، (قطرات دم تلطخ ملابسها ص 94). أسميه اغتصاباً، كما أكدت الروائية حدسي الأول عبر وصفها الدقيق للمشاعر البريئة التي اختجلت في قلب منال الغض وياسر الذي انتقم من نفسه بقطع عضوه التناسلي، وهذا مؤشر إلى أنّ علاقته بمنال الصغيرة انطلقت من بنية وعي تناسلي، قائم على شهوة عابرة. اغتصبها وهرب ومع ذلك نمط المجتمع شرف المرأة بقطرات دم، ببكارة قد لا توجد لسبب خلقي أو تفقدها لسبب ليس من بينها ممارسة الجنس خارج المؤسسة الزوجية. نجحت الكاتبة في وصف حالة الاغتصاب واكدتها من خلال السرد لاحقاً في ص 107 ( ثم تذكر منال الفتاة الجميلة البريئة التي استدرجها إلى مكان منعزل واستغل خوفها من الفضيحة ورعبها…).

لم تشفع الكتب والمكتبة الثرية للمأمور من أن يتزوج امرأة لا هم لديها غير التعطر.!!

أيضا التأخير في الزواج جاء في السرد في فقرتين مختلفتين على أنه (عنوسة) وهنا قفز سؤال بدور الأدب في تغيير المفاهيم المغلوطة، إذ جاءت المفردة على لسان الساردة التي عملت على ترسيخ ما يؤسّس لمفاهيم فيها انتقاص من إنسانية المرأة، ربما لو جاءت على لسان أم لمياء بأنها تزوجت متأخرة بعد أن قاربت سنّ العنوسة كما جاء في صفحة 88 لكان الأمر مختلفاً في أنّ الروائية فتحت مسارب للوعي بقضايا النوع الاجتماعي.

أحد أهم القضايا التي تناولتها الروائية هي العقم، فعطور الجميلة التي فاح عطرها أثناء قراءاتي للرواية لم تنجب وهنا عصف سؤال العقم عند الرجل وهل ينظر المجتمع للرجل بذات النظرة للمرأة التي لا تنجب.

تمارس الكتابة سراً ص 89 وأن تكون كاتبة مشهورة مثل غادة السمان كوليت خوري أو رضوى عاشور) وهذه السرية التي حكمت حياة المرأة وما زالت محكومة في جانب آخر بالرقيب الذاتي الذي لا ينفصل عى الرقابة المؤسسية. يحمد للروائية بثينة خضر مكي أنها تغلبت على رقابتها الذاتية حين تكتب لذا انسابت الأوصاف بفطرتها دون أن تعمل عليها قصاً وبتراً، ولكن في فصل الخمر في الإشارة إلى قوانين سبتمبر سئية الصيت، هنا تدخل الرقيب مبرراً أن هذه المعلومات الخاصة ببيوت الخمر والدعارة تمت عبر شخص آخر قامت بشكره في نهاية الكتاب وهو الوزير السابق على شمو. أعي أنّ من الصعب التخلص تماماً من الرقابة الذاتية التي تلاحق الكاتبة كلما أعلنت تمردها. هذا التناغم الأليم بين ممارسة لمياء للكتابة سراً وسيطرة الرقيب الذاتي في هذا الفصل لا ينفصلان.

عمران ورغم وعيه السياسي لكن لم يتقبّل ما حدث لأخته وانهزم في مواجهة انكسار رجولته عبر ما حدث لمنال شقيقته، شقيقته التي امتحنت ثلاث مرات ولم تنجح فكان البيت نصيبها في خدمة الوالدين، لم يفكر عمران في إيجاد أي وسيلة لمساعدتها لتواصل تعليمها، هنا تُكمن أحد العوامل التي تؤسس للتمييز بسبب النوع الاجتماعي، وهو التعليم. في واقع الأمر (البت للعرس) لذا لا ضرورة لمواصلة تعليمها. لاحقاً سأقوم بتطوير هذه القراءة بتناول مواضيع ثانوية عابرة ولكن تفتح نحو سهول المعرفة مثل الزوجة الأثيوبية، التهريب، انتحار ياسر. كلها ترميزات لواقع افتراضي تناولته الرواية.

عظمة أي عمل إبداعي فيما يثيره من أسئلة وعصف ذهني وقد نجحت الرواية في ذلك رغم الهنات والتكنيك السردي الذي لا يشغلني في هذه السانحة مثل ما تشغلني الأسئلة التي أثارتها الرواية. بنية الزمن في الرواية واضحة بإشارات حركة شعبان وتطبيق قوانين سبتمبر أو ما سمي بالشريعة الإسلامية. كانت تاريخياً فترة قاسية في تاريخ الشعب السوداني ولكنها ليست أصعب من تجربة الإسلامويين في الثلاثين عاماً الماضية وخاصة انتهاكات حقوق الإنسان والمرأة خاصة فهل نحلم برواية تتناول هذه الفترة التي سببت كل الخرائب التي أعاقت تطور السودان، خاصة المجال الثقافي والأدبي عبر لجنة النصوص التي كانت تمارس سلطتها السياسية على الأدب وليس سلطة آليات وتقنيات الأدب نفسه.

بثينة خضر مكي روائية وكاتبة سودانية، مدير ومؤسس (مركز بثينة خضر مكي الثقافي) للإبداع والتنوير والفنون. أول سودانية تعمل في مجال الطباعة والنشر. لها عدد من الروايات على سبيل المثال: «أغنية النار:، «حجول من شوك»، «بوابات الرحيل»، «صهيل النهر» و«حصار الأمكنة». صدر لها عدداً من القصص القصيرة مثل: «النخلة والمغني»، «أطياف حزن»، «أهزوجة المكان» و«عودة لجين».

 

*كاتبة، باحثة ومترجمة/ النمسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى