ثقافة وفنون

لشجرة وظلّها قراءة في رواية «عودة لوليتا» للروائي عبد الغني ملوك!!..

محمد رستم*

يتكئ الأديب عبد الغني ملّوك في عنونة روايته «لوليتا» على معنون رواية للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف والتي أحدثت ضجّة كبيرة في منتصف القرن العشرين. إذ تحكي قصة حب شاذ لمسنّ في الخمسين يهيم بالفتيات المراهقات ليعلق أخيراً بعشق فتاة في الثانية عشرة من عمرها (لوليتا) بعد أن تزوّج من أمّها، ويقوم أخيراً بقتل من استمالها إليه وخطفها منه. المسنّ يعرض حكايته وهو في قبضة العدالة ولأنّ الرواية (أيروتيكيّة) فقد منعت في أميركا وبريطانيا تحت ذريعة انتهاك صارخ لبراءة الطفولة ثم ألغي المنع، ولعل نابكوف استعار فكرة روايته من قصة قصيرة للكاتب الألماني (ليشبرغ).. هذا ويؤكّد الكاتب عبد الغني ملوك على مرجعيّة روايته وصلتها بالرواية العالميّة، إذ حاول مقاربتها في الكثير من الجوانب متذرعاً بأنّ الأحداث قد تتكرّر مع تبدّل الشخصيّات ويكون بذلك قد ارتكب إثم التقليد ومعصية الاقتباس..

وكما هو الفارق بين الشجرة وظلّها بين الشيء ورماده جاء الفارق بين «لوليتا» نابوكوف و(عودة لوليتا) لعبد الغني فمن التهور أصلاً أن يجرّب رسام تقليد الجوكندا أو يتشاطر نحّات فيقلد تمثال المفكر لرودان وهذا بالطبع لا يعتّم صورة الجماليات التي حفلت بها رواية «عودة لوليتا» إذ تعد خطوة متقدّمة على خطّ رواياته السابقة. وهنا لا يمكن إلّا أن نذكّر أنّ الأديب عبد الغني يأتي على رأس كتاب الرواية في حمص وقد يكون الأغزر إنتاجاً على مستوى سورية في السنوات الأخيرة، لكنّي هنا أتناول روايته من خلال منظار رؤيتي للرواية العالمية «لوليتا» ومقايستها بها لما بينهما من خيوط التقاء بدءاً من العنوان، كما أن الكاتب أشار إلى الرواية العالميّة ضمن سياقه السردي.

ومع أنّ الكاتب بدا أكثر تحرراً من قمقم الوصايا وأكثر جرأة في طريقة تناوله للجنس الذي جعله جزرة الغواية لروايته، إلّا أن الخطوط الحمر تقف له بالمرصاد، فقد اقترب من حقل الألغام المحظور (الدين والسياسة والجنس) بشكل موارب ويبدو ذلك من المقدّمة ومقاربته لمقولة لا فوازييه التي تؤكّد على أزليّة المادة ومصونيّتها بعيداً عن موضوعة (الخلق والخالق) فقال (لا شيء يفقد، لا شيء يخلق، الكل يتحوّل) فاستبدل ملّوك (لا شيء يولد) بـ (لا شيء يخلق) خوفاً من سيف الموروث والفارق كبير بين الجملتين.

وهذا يجرّني لذكر نقاط التشابه في الحالة البنائيّة للروايتين، فلعل الكاتب استمدّ عنونته «عودة لوليتا» من عبارة «يوم أعدت إلى الحياة آنا بيل في جسد لوليتا» الواردة في رواية لوليتا، وفي المنجزين هناك عشق مسنّ لفتيات في مرحلة المراهقة وفي كلتيهما وبسبب الغيرة يضع المسن العاشق مخبراً يراقب لوليتا. كما تعترف لوليتا بوجود شخص تصف علاقتها به بالعلاقة المميّزة (من دون علاقة جنسيّة) ولوليتا خائنة لمسنّها في الروايتين، إذ تستبدله بآخر لذا يحاول ناصر بطل (عودة لوليتا) كما همبرت (لوليتا) الانتحار بالسيارة من فوق جرف جبليّ وكلا المسنين ينتقم من غريمه فناصر انتقم من نادية عشقه الأول بممارسة الجنس مع صبايا روما وبعد خمس وثلاثين سنة وبعد أن عاش لحظات تسمن وتغني عن حب نادية عاد ليقول لا أعرف غريمي وأسعى للانتقام منه (وكأنّها حالة بدويّة للأخذ بالثأر) وبدلاً من الأخذ بالثأر انحرف ليعشق الصغيرات، ضارباً عرض الحائط بندمه وتوبته.

في لوليتا العاشق المسنّ همبرت يُعتبر ولي أمر لوليتا فهو زوج أمّها بينما يقارب العاشق ناصر ذلك (والد قمر قال له أنت مثل والدها أضعها أمانة في رقبتك كن أباها الروحيّ) وهمبرت حرم من حنان الأم إذ ماتت وهو طفل، يقابله عبد الغني بأنّ بطله ناصر لا أخت له، فظل يحار في الأنثى. وطبعاً لا تكافؤ بين مَن حُرم من حنان الأم وبين مَن لا أخت له.

وإذا كان فلادمير نابكوف قد بنى روايته على أساس نفسيّ، فجاءت ترجمة سيكولوجيّة لحالة مرضيّة أولم الكاتب لها كل مسببات المرض وجعل حاملها الشذوذ النفسي الذي يقود إلى حالة مغايرة للعُرف الاجتماعي، فإنّ ملّوك بدوره أثقل روايته بمحمولات متعددة (فلسفيّة، اجتماعيّة، سياسيّة، إنسانيّة) فبدت على صغر حجمها كشجرة صغيرة مثقلة بثمار فوق طاقة حملها.

والنهج الإرشاديّ شكل هاجساً واضحاً لدى الكاتب: (وكان أول درس أتعلّمه في الكذب والمراءة) ولعل المحمول الأخلاقي المغمّس بالإيمان المؤدّى الأبرز في المروية (أفنيت زهرة عمري وشبابي متسكّعاً في الأزقّة والبارات مضاجعاً النساء ومعاقرة الخمرة)، فناصر هنا (والملوّث من رأسه حتى أخمص القدم) يتنكر لسلوكه المجافي للإيمان والقيم الاجتماعيّة ويعلن ندمه. وإن جاء متأخراً (ولعل صحوته جاءت بسبب عودته إلى محيط أسرته فخوفه من الفضيحة دفعه للصحوة)، ولكنه سرعان ما يعود إلى سيرته فعطر الأنثى وعسل لذّتها نسغ حياته. فتكون قمر لوليتا الدمشقيّة (عادت حليمة لعادتها).

فالإيمان هو ميثاق الحكاية هنا وقسطاسها الخفيّ والتوبة بابها، ولعل ذلك ما دفع بناصر إلى الندم وكأن الاستهلال يشي بأنً من يترك الإيمان ينتهي إلى الندم والضياع.

ولا يُخفى هنا تأثير المحمول الاجتماعي الغارق بالخيانات التي وجّه الكاتب منظاره نحوها لتحفل بها المرويّة فيما لو عدنا لسمات ناصر التي تشابه سمات همبرت، فهو كأيّ شرقي عالمه الداخلي منخور بسوس الشبق الجنسيّ، فالعشق بسملته اليوميّة وفاتحة الكتاب والجنس ديوانه الأبدي، لذا فقلب ناصر بندول حياته ينوس حيث عطر الأنثى ولأنّ الجنس هاجسه فقد رأى في ممارسته اللا متناهيه مع صبايا روما انتقاماً من خيانة نادية له، ولعل ملّوك في موضع ما، أراد لبطله ناصر أن يشبه همبرت لكنّه لم يولم له كل الممكنات التي تجعله مطعوناً بمسببات الانحراف.

فناصر أحبّ مدرساته كعشيقات يشبهن أمه وتعلّق أخيراً بمعلمة الرسم (نادية) ويقول عنها: لقد أصبحت أمي الثانية بل حبيبتي. وهنا أشير إلى أن فارقاً كبيراً بين محبّة الشاب لأمه والوله بالحبيبة.

وناصر عربي القلب عصيّ على الأمراض النفسيّة، يرد على الخيانة العشقيّة بأكثر منها (سأخونك مع كل صبايا روما) وكان في البداية يعشق الناضجات ثم تحوّل بعد خيانة نادية له إلى عشق المراهقات (وكان لخيانة نادية دور في انقلاب أفكاري مائة وثمانين درجة إلى الجهة المقابلة). ونسأل هنا، هل مثل هذه الصدمة العاطفيّة كفيلة لتحوّله إلى حب المراهقات. فناصر هنا يعشق الصغيرات في السن بينما يهيم همبرت بنوع محدد من المراهقات أسماهنّ (المسعورات) في حين ظل ناصر الدرعاوي متفلّتاً لا يعاني إلّا من صحوة متأخّرة للضمير الأخلاقي والمتكئ على القيم الدينيّة..

هل يا تُرى أن ناصر قد أصيب بلعنة تجاوز الخطوط الحمر، فلدغه عنكبوت الوصايا وأفرغ فيه سم الندم والتوبة بعد أن أتخمت شرايينه من الولوغ في خوابي اللذة والتمرّغ بعسل الشهوة؟

يقول (هذا الحب هو نهاية المطاف لرجل عرف الموبقات كلّها وفشل في الحب) وهنا نقول للكاتب بأنّ الحب شيء والموبقات الجنسيّة شيء آخر.

ويحيل الكاتب بطله الناشز إلى مرجعيّة دينيّة مساحتها الاجتماعيّة (العيب والمقبول) وحدودها القصوى الحلال والحرام والعقاب عند مالك الملك.

أما نابكوف فيحيل بطله همبرت (ومع كل مرضه النفسيّ) إلى مرجعيّة قانونيّة فيقول مثلاً: (إن قانون ولاية.. يعتبر القاصر من لم تتجاوز الرابعة عشرة). وهذا الفارق سببه الفارق في الوعي الاجتماعي بين المجتمع الشرقيّ الغارق في الإيمانيّات والمجتمع الغربي المتحضر.

جاءت رواية (لوليتا) خالية من الحشو والزيادات والشوائب، فإننا نلحظ بعض الحشو والاستطراد في (عودة لوليتا) مثل (وصف الرحلة لوادي جهنّم).

أخيراً هي مقارنة فرضتها حالات التشابه بين الروايتين مع ملاحظة اختلاف البيئة الاجتماعية لكل من العملين وهذه المفارق تترك على الورق لقارئ عليم!

 

*كاتب سوري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى